قراءة في كتاب العقاد والثورة لحلمي النمنم


بقلم / د. محمود محمد علي


1-تقديم:
هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل الثقافة جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.
من الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب “فلسفة الثورة في الميزان لعباس العقاد ، والذي يقول في مقدمته :” عِندَما تَلْتحِمُ الجَماهِيرُ الغاضِبةُ بِنُخْبتِها المُثقَّفةِ الرَّافِضةِ لِلوَضْعِ السِّياسيِّ القائِمِ ومُؤسَّساتِه الحاكِمة، فتَخرُجُ فِي الشَّوارِعِ تُطالِبُ بِسُقوطِ النِّظَام؛ فَإنَّها تَسلُكُ مَسَارًا ثَوْريًّا فِي الإِصْلاحِ عَلى طَريقَتِها؛ تَطلُبُ التَّغييرَ الشَّامِلَ للوُصولِ إِلى وَضْعٍ أَفْضلَ (وأَحْيانًا يَنْهارُ إِلى الأَسْوَأ)، مُتَّخذةً دُسْتُورًا ثَوْريًّا مُركَّزًا يَتلخَّصُ في شِعاراتِها ومَطالِبِها الأَساسِيَّة. وخِلالَ التَّاريخِ السِّياسيِّ للجَماعَةِ الإِنْسانيَّةِ، اختَلَفَتْ تِلكَ الشِّعَاراتُ مِن ثَوْرةٍ لِأُخْرى بحسَبَ خُصوصِيَّةِ الأَهْدافِ وَما تَراهُ الجَماهِيرُ مِن مَساوِئ، فَكانَتِ “الحُرِّيَّةُ والإِخَاءُ والمُسَاواةُ” لَدَى الفَرَنسيِّين، و”تَحقِيقُ العَدالَةِ” عِندَ حِزبِ “تركيا الفَتَاة”، و”الاشتِراكيَّةُ القَوْمِيَّةُ” فِي الصِّين. فمَاذا عَن ثَوْرةِ يُوليو المِصْريَّةِ ضِدَّ مَلَكيَّةِ فارُوق؟ مَا هِيَ عَقيدَتُها وأَهْدافُها المَرْحليَّةُ والطَّوِيلَةُ الأَجَل؟ يَعقِدُ «العَقَّادُ» فِي هَذا الكِتابِ مُقارَنةً بَينَ فَلْسَفةِ ثَوْرةِ يُوليو وأَهْدافِ الثَّوراتِ الكُبرَى عَلى ضَوْءِ قِراءَتِه المُتأنِّيَةِ لكِتابِ عبد الناصر الشَّهيرِ «فَلْسَفة الثَّوْرة»، الَّذِي عبَّرَ فِيهِ عَن نَظْرتِهِ السِّياسيَّةِ والإِقْليميَّةِ لِمِصْر .
وعندما أهدى عبد الناصر إلى عباس العقاد نسخة من كتابه “فلسفة الثورة” كتب العقاد مقالا بعنوان “فلسفة الثورة في الميزان” وجه فيه النقد إلى الكتاب وسجل رفضه لإلغاء الأحزاب وتحديد الملكية الزراعية وتأميم المصانع والشركات وهذه أهم إنجازات الثورة في ذلك الوقت، ورفض العقاد اللجوء إلى “إجراءات ثورية” مثل قوانين العزل السياسي، واعتقال المثقفين، وعزل أساتذة الجامعات، وفى عنفوان الثورة سئل العقاد في حديث صحفي عن “الزعيم” في رأيه، فقال: الزعيم عندي هو سعد زغلول كان ولا يزال كذلك وليس بعده زعيم، وهو يعلم أن كتاب “فلسفة الثورة” وصف سعد زغلول في ثورة 1919 بأنه ركب الموجة الثورية، وحين منح عبد الناصر للعقاد جائزة الدولة التقديرية في احتفال كبير ألقى فيه كلمة بليغة لم يشكر فيها عبد الناصر بل استهل كلمته بقوله: “إني لأشكر هذا الشعب العظيم على هذا التكريم”، وبذلك لم تكن العلاقة جيدة بين العقاد وعبد الناصر وثورة يوليو كما كانت العلاقة مع طه حسين الذى كان عبد الناصر يعتبره صاحب الدعوة إلى الثورة على الأوضاع القائمة وإقامة العدالة الاجتماعية وإنصاف الفقراء ونشر التعليم بينهم للارتقاء بهم، أو كما كانت علاقة عبد الناصر مع توفيق الحكيم الذى كان عبد الناصر يعتبره ملهما له بروايته الشهيرة “عودة الروح” التي ذكر فيها أن مصر في انتظار بطل يعيد إليها الكرامة والشرف ويصلح الأحوال.
قصدت أن أقدم هذه المقدمة من كتاب فلسفة الثورة في الميزان لعباس محمود العقاد لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان “العقاد والثورة” لحلمي النمنم الذي يعد رائدا من رواد الدرس الإعلامي في العصر الحديث ، فهو كاتب صحفي، ومؤرخ مصري مهتم بالقضايا التاريخية والسياسية والاسلامية.
وفي رأيي أن هناك نمطان من الكتاب ،نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش ، والحرص علي أن يكون النقل أميناً ، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل ، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه ، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي ، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق ، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .
ولا شك في أن الأستاذ “حلمي النمنم” من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني ، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.
علاوة علي أن “حلمي النمنم” ( مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من الإعلاميين المصريين الذين يعملون في صمت وتواضع ودون ضجيج، أو تعالٍ ، فهو من كبار كُتابنا الإعلاميين الذين نجحوا في خلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكارهم، ومنعرجات مسائلهم، ومساقات حلولهم بعبارات شفافة رقاقة ، لا تشويش فيها ، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي ؛ وهو والله بحق من كبار كُتابنا الإعلاميين الذين نذروا حياتهم للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، وهو إنساناً في تفلسفه، وفيلسوفاً في إنسانيته، وبين الإنسان والفيلسوف تتجلي المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كناقد، أو سياسي، أو أكاديمي، أو أديب .. الخ؛ فهو غزير الإنتاج ، موسوعي المعرفة ، لديه دأب علي البحث والتنقيب، وشهوة لا تقاوم لتعلم كل ما هو جديد ومبتكر ، وهو رجل منضبط في فكره ومفرداته ، ويتمتع بروح دعابة، وخفة دم، ونظرة ساخرة للحياة والكون. وهو في كل هذا يستهدي بشرع قيمي منسق ، تتدفق في عروقه حيوية الصحة والسلامة السوية ، وينطلق من عقل صاف مدرب علي توليد الأفكار الناضجة الناقدة الملتهبة حماسة وفتوة.
2-التعريف بصاحب الكتاب:
في حياة الأمم والشعوب أفراداً يتميزون عن غيرهم بحيوية الفعل، وبالقدرة علي التضحية، وقد عرفت العراق الشقيقة نماذج رائعة من هذا النوع من الرجال الذين شكلوا طلائع الإحساس العميق بضرورة التغيير، وتمتعوا بقدرة كبيرة علي الاستنارة، وكان المفكر والباحث والكاتب الأستاذ حلمي النمنم ، واحداً من كبار الإعلاميين المصريين المعاصرين الذين المهمومين بالوطن وبالتطورات التي يشهدها ، ويبدو ذلك جليا من خلال إنتاجه الفكري الثري والمتنوع في مختلف أبعاد وجوانب العلم والثقافة ، مثل : أيام سليم الأول في مصر، وسيد قطب.. سيرة وتحولات، والرائدة المجهولة زينب فواز، وحسن البنا الذي لا نعرفه، والأزهر الشيخ والمشيخة الحسبة وحرية التعبير، وسيد قطب وثورة يوليو، وطه حسين والصهيونية، وليمة للإرهاب الديني، رسائل الشيخ علي يوسف وصفية السادات، والتاريخ المجهول: المفكرون العرب والصهيونية وفلسطين.. الخ.. في هذه الكتابات يبدو لنا حلمي النمنم .. القيمة والقامة، الإنسان البسيط، الوارف كالظل، الزاخر كالنهر، العميق كالبحر، الرحب كالأفق، الخصيب كالوادي، المهيأ كالعلم، رجل الفكر المتميز، وزير ثقافة مصر السابق.
وحلمي النمنم هو كاتب صحفي، ومؤرخ مصري مهتم بالقضايا التاريخية والسياسية والاسلامية. حاصل على ليسانس من كلية الآداب بقسم الفلسفة بجامعة عين شمس عام 1982. بعد تخرجه من الجامعة، عمل صحفياً بقسم التحقيقات، في مجلة حواء، بدار الهلال، ثم انتقل منها إلى مجلة “المصور”، حيث تدرج في المناصب، حتى وصل إلى منصب رئيس مجلس إدارة دار الهلال. شارك في تأسيس جريدة الدستور، والذى خرج الإصدار الأول منها عام 1995، كأول جريدة خاصة تصدر منذ قيام ثورة يوليو 1952، كما شارك في تأسيس جريدة “المصري اليوم”. كما تولي رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية، ثم تولي منصب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأخيراً تولي وزيراً للثقافة منذ 19 سبتمبر 2015 إلي خرج منها في 2018 وهو الآن يمارس كتاباته في المقالات والأبحاث .. متعه الله بالصحة والعافية.
وقد أسهم حلمي النمنم بعضويته في كثير من المؤسسات العلمية، ومراكز البحث العلمي العالمية، وألقي العديد في بحوث في مؤتمرات وندوات محلية ودواية، منها أبحاث نشرت مجلات متخصصة، كما حاضر عن الفكر العربي الحديث والمعاصر في كثير من الجامعات المصرية والعربية.
كما كان الرجل كاتباً مرموقاً في عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية كجريدة الأهرام، والوطن، وروزا ليوسف، والوفد، والبوابة نيوز، وفيتو، والأخبار …الخ.
3-أهمية الكتاب:
إن البحث الفلسفي في نظر “حلمي النمنم” تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النفول والشروح والتعليقات المفتعلة . وعلاوة علي ذلك فإن جدية “حلمي النمنم” وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية ، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار ، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها ، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما ، والمجتمع المصري خصوصا ، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.
ولهذا يعد “حلمي النمنم” واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من إعلامينا المعاصرين ، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة . إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر ، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة ، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا أو ذاك .
وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة ، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره ، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة الحديثة ، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان “العقاد والثورة” ، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها مؤلفها “محمد مدين” بالدفاع عن ” التنوير ، والليبرالية، والعقلانية” .
وهنا نجد “حلمي النمنم” في معالجته لهذا الكتاب يتحرك من اتجاه فلسفي يشغل في خريطة الفلسفة المعاصرة من مكان القلب ، وهذا الاتجاه هو ” الاتجاه التحليلي” ، وقد كان ” العقاد ” ومن بعده أستاذنا الدكتور ” زكي نجيب محمود ” ، هما الرئدان له في فكره التحليلي العميق ، إلا أنهما يعكسان بجانب ذلك حماسة وروح “حلمي النمنم” الشابة ، تلك الروح التي تذكرنا بحماسة كل من” محمد حسين هيكل” والدكتور “زكي مبارك” وروحهما الشابة.
ولم يكن ” حلمي النمنم” في كتابه الذي بين أيدنا مجرد عارض موضوعي للعقاد وموقفه من ثورة يوليو ، وإنما نجد فيه عقلاً في مواجهة عقل ، وقد تجلي ذلك في كثير من المواقف النقدية التي اتخذها ” حلمي النمنم ” من فلسفة العقاد ، ومن الأفكار السائدة والشائعة في كتاب النمنم عن العقاد، أنه لم يكن من المعارضين للثورة ، بل كان العقاد ممن أعجبوا بالهدف الخامس لثورة يوليو وهو إقامة جيش وطني قوي، أما الوصول إلى حياة ديمقراطية هو أسمى ما حققته الثورة من وجهة نظر العقاد؛ لأنه سادت قبل ثورة يوليو أوضاع اجتماعية واقتصادية من شأنها أن تجعل الشعارات الديمقراطية والحقوق والحريات السياسية المنصوص عليها فى الدستور مجرد واجهات تخفي وراءها واقعًا بعيدًا عن الديمقراطية ونظامها الدستوري السليم.
وكان الأثر الأكبر للثورة الذي لاقى إعجاب العقاد كما يري النمنم هو الحرص الثورة على توفير الخدمات الاجتماعية والصحية والثقافية لأهل الريف؛ كما أشاد العقاد بدورها في التعليم لأهميته في بناء الوطن؛ كذلك حققـت يوليـو في نظر العقاد الكثير من المشـروعات الكبـرى والإنجازات القومية أبرزها ما لفت انتباه العقاد واشاد به هو زيادة الرقعة الزراعية عن طريق استصلاحها.
وأنا أؤيد الأستاذ حلمي النمنم فيما قاله هنا ، لا سيما وأن العقاد يقول عن نفسه : لقد حاربت الطغيان، وحاربت الفوضى، لقد حاربت التقليد الأعمى والدجل المريب باسم الدين، لقد حاربت رءوس الأموال، وحاربت مذاهب الهدم والبغضاء، لقد حاربت الجمود والرجعية، وحاربت الأحزاب، وحاربت الملوك، لقد حاربت هتلر، ونابليون، وحاربت المستعمرين، لقد حاربت الصهيونية وحاربت النازية أكبر أعداء الصهيونية، وحاربني كل هؤلاء إلى جانب صاحب اللحية والعذبة باسم الدين، لقد نكب هذا البلد المسكين بداء الاستبداد القديم فصارت قيم الناس مرهونة بتقدير الحاكم، فلا مقام لأحد بغير لقب ولا حسب ولا جاه وبلغ من عبادة الأوثان أن “الصوفية” في هذا البلد منذ قرون وعاشت على المظاهر والألقاب، وبين منتسب إلى هذا الضريح ومنتسب إلى هذا الهيكل ومعهم أشتات من الرايات والفوانيس.
ومن هنا يعد كتاب (العقاد والثورة) عصارة تفكير حلمي النمنم ، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في ثلاثة عشر محورا : المحور الأول، وقد جاء بعنوان “عبـاس العقـاد بـن ملكـين”، بينما جاء المحور الثاني بعنوان ” الخـلاف مـع النحـاس يجمـع ”العقـاد والملـك“، في حين جاء المحور الثالث حاملا عنوان” كتاب العقاد الذي صودر في يوليو 52″، ثم يجيئ المحور الرابع حاملا هذا العنوان ” التنازل عن العرش”، بينما المحور الخامس جاء بعنوان” الجيش أنقذ مصر” . أما المحور السادس فهو بعنوان” محاولـة اغتيـال عبد الناصر” ، وأما المحور السابع فهو بعنوان” تطهير الصحافة وعامل الكتابة”، في حين يأتي المحور الثامن فهو بعنوان” مطلب تجاهله الجميع “، وأما المحور التاسع فهو بعنوان” من الملكية إلى الجمهورية”، وأما المحور العاشر فهو يعنوان” فلسفة الثورة”، بينما يأتي المحور الحادي عشر بعنوان” العقاد وعبد الناصر.. إعجاب إلى امتعاض ، وأما المحور الثاني عشر فجاء بعنوان” بين سعد زغلول والنحاس وعبد الناصر”، وأما المحور الثالث عشر فجاء عنوانه كالتالي” هل آثر السلامة وابتعد عن السياسة؟”.
وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف من خلال عرضه لتلك المحاور في هدفين أساسيين ، أو جعلهما في دافعين :
الدافع الأول : نظري معرفي يقوم علي ضرورة إعادة النظر في الدور الذي يقوم به العقل في نظرية الأخلاق عند هيوم .
الدافع الثاني : عملي واقعي ، حيث يعول الكاتب كما قال العقاد في كتابه فلسفة الثورة على ضرورة أن تنطلق كل ثورة من معطيات واقعها الذي تعيشه، دون محاولة للقيام بأي اقتباس أو تقليد لثورات أخرى قامت في مجتمعات وظروف مختلفة، أو استجرار قصص الماضي وأخبار العظماء التاريخية، ومُحاولة إسقاط سيرتهم كاملةً على المجتمعات المحلية والواقع الحديث، لما سيؤدي إليه ذلك من مآسٍ وكوارث بإمكاننا ملاحظةُ بعضها بوضوحٍ اليوم. كما يشدُد العقاد في كتابه أيضا حسب الكاتب على أنّ، الشعارات يجب ألا تُنتقى عشوائياً، لأنها ستتحول إلى مبادئ فيما بعد، توجه مسار الثورة وجهودها وتضحياتها.
ولأكثر من سبب فقد جعل “حلمي النمنم مضمون الكتاب وفحواه ومادته في الاستدلال علي الهدف الأول ، أي علي الجانب النظري المعرفي ، مستغلا كل فرصة للتعليق بالسلب علي أصحاب الدافع الثاني ، بين نقد أو نقض؛ والدليل علي ذلك ما قاله المؤلف في مقدمة كتابه :” عــلى المستوى السياسي والفكري أخـتـرت موقــف العقــاد مـن ثـورة 23 يوليـو 1952 ومـن الرئيـس جـمال عبد الناصر، الـذى حكـم بـن عامي 1954وحتـى 1970 ، عـاش العقـاد عـشر سـنوات مـن حكـم عبد الناصر، وحـين غادرنـا إلى العـالم الآخر، كان قـد مـضـى عـلـى ثــورة يوليــو 12 عامــاً، وهــى مــدة زمانيــة كافيــة لاتخــاذ موقــف أو مواقــف منهــا، والشــائع أن العقــاد لم يكــن محبـاً لثـورة يوليـو وكان غـير محـب لعبد النـاصر، وأن عبد النـاصر منحــه جائــزة الدولــة في عيــد العلــم، محاولــة لاستــرضائه وأن رئاســة الجمهوريــة حاولــت الكثيــر مــع العقــاد كي يلــن لعبد النــاصر لكنــه أبي ( أنظر الكتاب ص 9).
ثم يستطرد الكاتب فيقول:” كان العقــاد شــديد التقديــر والإعجاب بالزعيــم ســعد زغلـول، وعنـد الكثيريـن في مـصر أن مـن يحـب سـعد زغلـول لا بـد أن يكـره عبد الناصر والعكـس.. وأن مـن يقـدر دور ثـورة 19 في التاريخ لا بد كذلك أن يرفض ثورة يوليو وكل ما جاءت به “.. ( أنظر الكتاب ص 10).
ومن هنا كانت مهمة “حلمي النمنم” في مقدمة كتابه أن يعرف القارئ بمقصوده بموقف العقاد الحقيقي من ثورة يوليو 52″ ، وأن يبين أن المؤرخين قد أخطأوا عندما تصوروا أن العقاد ضد عبد العناصر وضد ثورة يوليو.
والواقع أنه إذا كان صحيحاً القول بأن للفيلسوف حدثاً واحداً يتكرر كل عدة سنوات كما قال الفيلسوف الفرنسي المعاصر ” هنري برجسون”؛ فإنه صحيح أيضاً القول بأن للمفكر المتميز خطاباً واحداً يتكرر دائماً عبر مستويات عديدة تعكس كلها رؤية واضحة ومتفردة، كتلك التي نجدها متضمنة في جميع أعمال “محمد مدين” ، وهذه الرؤية متجسدة في أسلوبه الفلسفي ومدي ارتباطه بالحس الصحفي ، ومن هنا يقع كتاب (العقاد والثورة) الذي نحن بصدده الآن ضمن الدوال الرئيسية علي معالم هذا الخطاب الذي يمثل بحق اتجاهاً معرفياً جديداً في حقل الفكر العربي الحديث والمعاصر .
خلاصة ما يريد الكاتب إيصاله للقرّاء، أن الأديب الراحل “عباس العقاد” وإن كان من المدافعين عن الرأسمالية والليبرالية، فلما جاءت ثورة يوليو 1952، لم تصدمه كما قيل بإلغاء الملكية والأحزاب، ثم تحديد الملكية الزراعية، وبعد ذلك الاشتراكية والتأميم، وليس صحيحا كما قيل عندما لمس العقاد نجاح الحركة الثورية والتفاف الشعب حولها، لم يستطع إلا مسايرتها، ولكنه لم يؤيدها تأييدًا كاملًا، ولم يؤيد عبد الناصر بقلبه، كما أنه ليس صحيحا القول بأن العقاد هادن الثورة المصرية، ولم يؤيدها، فتناست الثورة خدماته للملك فاروق ولأحزاب الأقلية، وهادنته فعينته عضوًا بالمجلس الأعلى للفنون والآداب ومقررًا للجنة الشعر، كما أنه ليس صحيحا أيضا معاتبة العقاد للقائمين على الحركة الثورية، لأنها في جوائزها التقديرية لم تحسب شيئا لغير التقديرات الجامعية، أي أنها قد تناسته، فسارعت الثورة لمنحه جائزة الدولة التقديرية للآداب عام 1960.. وهلم جرا.
وفي النهاية أقول: تحيةً مني للأستاذ حلمي النمنم الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.
د. محمود محمد علي
أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
المراجع :
1- عباس محمود العقاد، دار المعارف, القاهرة، 1964.
2-حلمي النمنم : العقاد والثورة ، مؤسسة دار الهلال ، القاهرة ، 2022.
3-د.محمود محمد علي: حلمي النمنم والأبعاد الحقيقية لتجديد الخطاب الديني، صحيفة المثقف العدد: 4674 المصادف: 2019-06-23 01:30:21

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.