حرب أوكرانيا تعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية لأوروبا


أسامة خليل

الحرب في أوكرانيا معركة حاسمة لمستقبل أوروبا وإعادة تشكيلها الجيوستراتيجي وبنيتها الأمنية في نهاية المطاف، وفق أندرو آي ميشتا، عميد كلية الدراسات الدولية والأمنية في مركز جورج مارشال الأوروبي الأمني.

وأوضح الباحث البارز غير المقيم في مبادرة استراتيجية سكوكروفت في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن التابع للمجلس الأطلسي، أندرو ميتشا في تحليل بمجلة “بوليتيكو” أن الحرب تُمثل تحولاً جذريّاً في تطور القارّة بسبب سوء تقدير بوتين الجسيم للأحداث ومقاومة الشعب الأوكرانيّ. وقد عجَّلَت ردة الفعل السريعة البديهية للولايات المتحدة إذ أمدّت أوكرانيا بمساعدات عسكرية واقتصاديّة بهذا التحوُّل.

تحول في الأنظمة الحاكمة

وأضاف الكاتب أن هذه الحرب تُحدِث تحولاً في الأنظمة الحاكمة، إذ كشفت عن هيكل توزيع القوى في أوروبا الذي يبدو غارقاً تحت طبقات من المؤسسات أنشأتها عقود من النزعة المُتعالية على القوميّة لتعويض الوهن العسكري للقارّة بعد عام 1945. وكشفت الحرب أيضاً عن المصالح والتحالفات الأوروبية الداخلية المتناحرة، بينما صدَّرَت إلى المشهد سؤالَ ما إذا كانت المؤسسات الحالية مؤهَّلَة للاضطلاع بالمهمة.

وتساءل ميشتا: هل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي قادران على تحفيز أوروبا على التصدي لروسيا وجعلها تدفع ثمناً باهظاً لشنها حرباً لم تشهدها أي قارة أخرى منذ عام 1945؟ وهل سينجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في توسُّعه الإمبريالي مجدداً إلى أوكرانيا وإعادة تشكيل نطاق النفوذ في شرق أوروبا، وربما حتى تحدّى الناتو مباشرةً فور أن يستعيد جيشه قوته في غضون سنوات قلائل؟

وتابع الكاتب: امتازت ردّة الفعل الأوروبية للحرب حتى الآن بالسخاء والفوضوية. وقد حدَّدتها أيضاً الذاكرة السياسية لمركز ثقل أوروبا ومبتدأ حدودها ومنتهاه.

يدور الجدل السياسي في أوروبا بشأن أوكرانيا حول النهاية المحتملة للأزمة، أو بالأحرى ما إذا كان من الممكن أن تكون هناك نهاية تتوافق مع الوضع الذي كان قائماً من قبل. ولذلك كان النقاش بشأن مستقبل أوكرانيا مدفوعاً بتوسعة نطاق الاتحاد الأوروبي، ولذلك أيضاً تجنَّبَت الدول الأوروبية القضايا الأمنية الشائكة إلى حدٍ كبير حتى الآن، كقضية عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي.

إن الغاية من حلف الناتو في نهاية المطاف، برأي الكاتب، هي القوة الرادعة والدفاع الجماعي، وسيكون توزيع قوة الإكراه بعد الحرب هو الذي سيدفع التأطير المؤسسي وسيُحدِّد البنية الجديدة لأوروبا المستقبلية. وسيظهر مركز جديد للثِقل في أوروبا، كما حدث في بداية الحرب الباردة، وسيميل بشكلٍ مُتزايد نحو الشمال الشرقي. وقرار فنلندا والسويد بالسعي إلى الانضمام إلى حلف الناتو ليس إلا المثال الأوضح على هذا التغيير الذي يتجلى لنا.

الحلول المؤسسية والمعضلات الأمنية

لكن، تاريخيّاً تستند الحلول المؤسسية للمعضلات الأمنية إلى الماضي، ولو أن أصحابها يزعمون أنهم يُقدِّمون حلولاً للمستقبل. وبالطبع فإن الترتيبات الأمنية المؤسسيّة يمكن أن تدعم التحالفات، ولكن شرط أن تعكس تلك المؤسسات القوة والمصالح الحقيقية. وقد تجلّى هذا الواقع خلال هذه الحرب. فبينما أعادَ خطر النزعة الانتقامية الروسية أ تنشيط حلف الناتو سياسيّاً، فمن دون إعادة تسليح حقيقي لأوروبا، سيصبح التحالف الموقر خاويّاً لدرجة تجعله غير ذي أهمية.

واليوم، تقف أوروبا عند منعطف خطير لأنها ما زالت مُتشبثة بـ “التفكير المؤسسي” الذي ينفصم على نحوٍ متزايد عن وقائع قوة الإكراه على أرض الواقع. وفي الوقت ذاته، يشعر القادة السياسيون للقارة بأنّ ما حدث في أوكرانيا – وفي نهاية المطاف مآله على الخريطة السياسية لأوروبا – سيُحدِّد مسارَ تطور أوروبا، وبالتبعية العلاقات العابرة للأطلسي.

وأكد الكاتب أنه ستكون هناك تبعات حقيقية ودائمة لمستقبل أوروبا، مضيفاً: عندما تنال أمة حريتها بعد تضحيات مروعة ومادية، وهي تدافع عن الآخرين في القارة الأوروبية في تلك الأثناء، فلا يمكن التنكُّر لها والزعم بأنها دولة هامشية. ولذلك ستتبوأ أوكرانيا المنتصرة في الحرب مكانتها في أوروبا استناداً إلى حجم تضحياتها، بينما سيزداد تأثير الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي أدّت دوراً محورياً في انتصارها، ولا سيما تلك الواقعة على طول الجناح الشرقي لحلف الناتو.

ولفت الكاتب إلى أن الفكرة هي أنّ مركز ثِقل أوروبا ليس وحده الذي سيتحوَّل نحو الشمال الشرقي، وإنما سيتفكك بالكامل أيضاً مفهوم أنّ أوروبا الشرقية هي مستنقع الغرب الراكد، وهي الصورة التي عززتها حروب البلقان في التسعينات.

وزاد الكاتب: “أمست أوروبا الشرقية أوروبيَّة قلباً وقالباً، إذ يُكتشَف تاريخها وتراثها حديثاً في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، وتتزاحم صور العواصم ريغا ووارسو وكييف الآن على شاشاتنا. إننا نرى سياسيين من أوروبا الشرقية يُبدون قدراً عظيماً من القيادة والشجاعة، ويعلنون صراحةً عن أولوياتهم الأمنية القومية، ويخاطرون بتورطهم في الأزمة، ويتحلون بالإقدام والجسارة لإيقاف روسيا ومساعدة أوكرانيا في قتالها تحقيقاً للحرية والسيادة القومية”.

ورغم أنّ الحرب في أوكرانيا لم تنتهِ بعد، فقد تغيرت أوروبا بالفعل، يقول الكاتب، وحقيقة الأمر أنّ قادتها يدركون ذلك. سيستغرق الأمر وحسب وقتاً أطول كي يدرك جميع المعنيين هذه الحقيقة، إذ سيطمر إدراكهم هذا، ربما إلى الأبد، الهيكل المُتحجر للشكل الذي بدت عليه القارة الأوروبية حتى وقت قريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.