جودت أحمد سعادة العَلاّمَة ورائد التنوير التربوي العربي المعاصر


أ.د. محمود محمد علي

شهدت مصر في الفترة بين أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين، تكوين جيل من العلماء الموسوعيين في المجالات العلمية كافة، استطاع أن يقود الحياة العلمية والثقافية في مصر بخاصةٍ والوطن العربي بعامةٍ ردحاً من الزمن، واستطاع أيضاً أن ينير الطريق الثقافي والعلمي للأجيال التي جاءت بعده، كي تبني على مجهوداته وتكمل مسيرته. وقد رأى هذا الجيل أن يقود الناس من خلال الكلمة والفكر قبل السياسة والحكم، مما جعله يهتم اهتماماً قل نظيره بتثقيف نفسه بالدرجة الأساس، فتعامل أولاً مع الينابيع الصافية والأصيلة للحضارة والثقافة العربية والإسلامية، ثم تعامل وتفاعل هذا الجيل بعد ذلك مع الحضارة والثقافة الغربية الحديثة. وعندما وصل هذا الجيل الفريد إلى الدرجة العالمية من العلم نظر حوله، فوجد الناس خواء، فقراء فكرياً وعلمياً وتربوياً، غير أن عقولهم ما زالت تربة خصبة لزراعة الأفكار. لذا، حاول بذل كل ما في وسعه من جهدٍ كبيرٍ من أجل النهوض بأمته وأبناء جلدته، فخاطب الناس على مختلف الجبهات، وفي شتى الميادين؛ فكان هذا الجيل هو حزب الثقافة والنهوض والتطور الفكري، فلم تضيعه السياسة في مناوراتها، ولا وعورة طريقها، بل كانت السياسة عنده مرادفةً للوطنية.
ومن جهة أخرى، فقد لا أكون مبالغاً إن قلت بأنني لست من أنصار وأتباع من يكابرون ويتبرمون على الجهر بالحقيقة وفي وقتها القانوني، دون أن تطالهم صافرة اللوم والنقد والعتاب مهما يكن من أمر، أو تشتد بهم العواصف العاتية والرياح الهوجاء التي قد تجرفهم في تيارها الواسع البعيد في نقطة اللاعودة. ولأن أستاذ التربية كما اعتقد هو ذلك الكيان المسكون والمخلوط بروح العطاء الخارق، فهو يمثل الرسالة البيضاء المليئة والمتدفقة في كل الجامعات والمحافل التربوية أينما كان وحيثما وجد. فلولا هذا الأستاذ ما أطلت علينا نسائم وبشائر التفوق في عالم التربية، ولما شعرنا بقيمة الرجال العظماء والمفكرين الأفذاذ، ولما تلذذنا بطعم الكلمات والتعليقات الساخرة واللاذعة التي تقطر بها أقلامهم وتلهج بها ألسنتهم وتخطها أناملهم في كبريات المؤتمرات والندوات واللقاءات، غير عابئين أو مكترثين بما يعترضهم من مشكلاتٍ كثيرة وعقباتٍ أكثر.
والأستاذ الدكتور جودت أحمد سعادة المساعيد، يمثل في الحقيقة واحداً من العلماء التربويين الموسوعيين العرب الوطنيين المعاصرين الذين شرفت بالتعامل معهم وصادقتهم. فلقد عرفته منذ ثلاثة أعوام ونيف عندما تم تشكيل لجنةٍ عليا برئاسته من العلماء العرب المرموقين في ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة من شتى الأقطار العربية، وكان لي الشرف أن رشحني أستاذنا الدكتور علي وطفه أن أكون ضمن هذه اللجنة. وخلال تلك الفترة أدركتُ جيداً أنه من أعظم القامات العلمية الأردنية التي تعهدت بتثقيف أجيالٍ كثيرةٍ بالعلم والمعرفة والتنوير الفكري، وفاض علمه حتى اجتاز الآفاق، وتعددت مجالات إسهاماته العلمية والثقافية والتربوية في ميادين معرفية أخرى جديدة. كما أنه يعتبر أحد علماء التربية العرب المشهورين ممن حدد مجالاته تماماً، ورتب موضوعاته بدقة، وكشف النقاب عن أدوار شخصيته العلمية الإبداعية، وصاغ الأُطر النظرية الدقيقة له، وأبان عن تاريخه وأبعاده النظرية والعملية والفكرية، وقام بتوضيح التجربة التربوية وخصائصها، وحدد المنهج العلمي لدراستها، وظل لأكثر من نصف قرن أهم باحثي التربية في مصر والوطن العربي كافة. ولقد وجدت في شخصه الكريم وفاء الصديق وقلب الرفيق، ومثاقفة الفارس وأريحية المفكر، والنبوغ المبكر، والعبق القديم، وعطر الزمان الجميل وغير ذلك من الخصال الشخصية الراقية، الأمر الذي كان وراء حيرتي وقلمي في اختيار أحد الجوانب لأتحدث فيها عنه، فراق لي أن أتحدث عنه كرائد التنوير التربوي العربي المعاصر.
لقد نشر سيرته الذاتية والعلمية العطرة في كتابٍ ضخمٍ تحت عنوان ” حصاد نصف قرن من العطاء”. والذي اشتمل على أربعة عشر فصلا وتسعمائة صفحة، دارات حول السيرة العلمية والفكرية والثقافية المطولة لشخصه الكريم، وبيان كلٍ من الشهادات العلمية من الجامعات العربية والأجنبية التي التحق بها، والترقيات الأكاديمية التي حاز عليها، وشهادات الخبرة التدريسية والإدارية الجامعية التي حصل عليها، والجوائز والأوسمة التي تم منحها له، ودروع التكريم وشهادات الشكر والتفوق والتقدير التي استلمها خلال خدمته الجامعية الطويلة، وتوضيح إنتاجه العلمي المكون من نحو خمسين كتاباً جامعياً وتربوياً متخصصاً، ومائة وعشرين من الأبحاث المنشورة في مجلات عربية وأجنبية مُحَكَمة، علاوة على تناوله لموضوعاتٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ متنوعة، مثل كتابة تسعين حلقة من الذكريات في ميادين التربية والتعليم العالي، والعمل على نظم الشعر بقصائد متنوعة زادت من السبعين، ونشر مقالات تربوية وسياسية وصحية وعلمية في عدة صحف عربية مرموقة، وحصوله على جوائز علميةٍ وتفوق دراسي من عدة جامعات ومراكز علمية وبحثية مرموقة عربية وأجنبية.
وكل هذا يخول لي أن أقول عن الأستاذ الدكتور جودت أحمد سعادة المساعيد، بأنه يُعد بحق رائداً من رواد القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، وهو شخصية متفردة بين أبناء جيله من أساتذة الفكر التربوي المعاصر. فقد كان من أساتذة التربية القلائل في تاريخ الفكر العربي العالمي، الذي كرس حياته بحق مفكراً تربوياً عميقاً، وشاعراً مرهف الحس، وزاهداً رغم ثرائه، وأستاذاً بكل ما تحمله كلمة الأستاذية من معانٍ نبيلة وقيمٍ خالدة، وخاصة في وقتٍ كثر فيه أشباه الأساتذة التربويين المثقفين. فهو نِعمَّ المفكر التربوي التنويري، حيث كان مستنيراً في دراسته .. مستنيراً في تعليمه وتعلمه .. مستنيراً في تدريسه وإشرافه على طلبة الدراسات العليا لردحٍ طويلٍ من الزمن ….. مستنيراً في ربطه التربية دوماً بالأخلاق والقيم والمشكلات والطموحات الحياتية .. مستنيراً في ربط التربية بعلم الجغرافيا والعلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى. أقول وبكل صدقٍ وتجردٍ وموضوعية، بأن هذا الرجل العظيم المتخصص في المناهج وطرق التدريس، هو ليس أكثر علماء التربية العرب المعاصرين إنتاجاً للبحوث العلمية والكتب التربوية الجامعية فحسب، بل وهو أيضاً أعلاهم مقاماً وأقواهم تأثيراً؛ حيث أعطي العمل التربوي في حقل التعليم والتعلم الوزن الأول بين اهتماماته، وأنفق عليه من عمره وجهده ما لم ينفقه متخصص عربي آخر.
وهو بالإضافة إلي كل ذلك يمثل نموذجاً ساطعاً للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون، سواء في التزامه بأداء واجباته الاكاديمية والوظيفة علي أفضل ما يكون الأداء، أو في ارتباطه بطلابه بعلاقةٍ إنسانيةٍ رفيعة المستوى في هديٍ من التقاليد الجامعية العريقة التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره الواضح في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي الفاعل.
والأستاذ الدكتور جودت أحمد سعادة المساعيد من مواليد عام 1945 ويحمل الجنسية العربية الأردنية، وكان قد عمل في ثماني جامعاتٍ عربيةٍ متنوعة كان آخرها جامعة الشرق الأوسط في الأردن، حيث تقلد فيها منصب عميد كلية العلوم الإنسانية، وعميد كلية التربية، وعميد البحث العلمي، وعميد الدراسات العليا على مدى عشر سنوات كاملة. كما سبق له وأن عمل في العديد من الجامعات العربية المشهورة، وتقلدَ مناصبَ إدارية وأكاديمية جامعيةٍ عديدة منها رئيس قسم التربية ومدير مركز البحوث التربوية في جامعة اليرموك الأردنية، ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس في جامعة السلطان قابوس، ورئيس قسم الدراسات العليا وعميد كلية التربية في جامعة النجاح الوطنية بفلسطين، ثم رئيس قسم أساليب التدريس في جامعة الإسراء الأردنية الخاصة.
وقد حصل الدكتور جودت أحمد سعادة على بكالوريوس الجغرافيا من جامعة الإسكندرية عام 1968 وكان ترتيبه الأول على الدفعة، وحصل على ماجستير التربية من الجامعة الأردنية عام 1973، وعلى ماجستير آخر في الجغرافيا السياسية من جامعة كانساس الأمريكية عام 1978، ودكتوراه الفلسفة في المناهج وطرق التدريس عام 1980 من جامعة كانساس ذاتها مع الوضع في لوحة الشرف فيها.
ومن بين أهم أعماله العلمية الكثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : المنهج المدرسي المعاصر، والتعلم الخبراتي أو التجريبي، وتنظيمات المناهج وتخطيطها وتطويرها، والتعلم النشط بين النظرية والتطبيق، والتعلم التعاوني، والمنهج المدرسي للموهوبين والمتميزين، ومناهج الدراسات الاجتماعية، وتدريس مهارات التفكير مع مئات الأمثلة التطبيقية، وأساليب تدريس الموهوبين والمتفوقين، واستخدام الحاسوب والانترنت في ميادين التربية والتعليم، واستراتيجيات التدريس المعاصرة، ومهارات التفكير والتعلم، وتدريس مفاهيم اللغة العربية والرياضيات والعلوم والتربية الاجتماعية، والمعجم الجغرافي الموسوعي (عربي – إنجليزي)، وصياغة الأهداف التربوية والتعليمية في جميع المواد الدراسية، ومهارات عقلية تنتج أفكاراً إبداعية، وتطوير مناهج وطرق تدريس الجغرافيا، وتدريس مهارات الخرائط ونماذج الكرة الأرضية، وأشكال سطح الأرض بالمعلومات والصور والرسوم والخرائط الملونة، وطرائق التدريس العامة وتطبيقاتها التربوية، وتقويم المناهج بين الاستراتيجيات والنماذج، وتقويم المناهج من حيث التوجهات الحديثة، والمعايير العالمية، والتطبيقات التربوية، والتطلعات المستقبلية.. وهلم جرا.
ولقد شهد له زملاؤه ومعاصروه من العلماء والباحثين على مستوى الوطن العربي والعالم، بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة، والإنتاج العلمي الغزير والمتنوع وذي العلاقة بالقضايا العلمية والتربوية المتعددة …. إلي جانب ما يتمتع به من خلقٍ رفيع ، وتمسكٍ بتعاليم الدين الحنيف. ولا غرو في ذلك، فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد والراقي، والشموخ الإنساني المتميز، باحثاً ومنقباً، ومحققاً ومدققاً، ومخلفاً وراءه ثروة هائلة من الكتب الجامعية المرموقة، والبحوث الاكاديمية والعلمية الرصينة المنشورة في مجلاتٍ علمية رصينةٍ ومُحَكَمَة في مختلف أرجاء الوطن العربي والولايات المتحدة الأمريكية، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع والتلاميذ، وطلبة الدراسات العليا الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه وتجاربه العميقة والمتنوعة.
نعم لقد كنا نرى في الأستاذ الدكتور جودت أحمد سعادة المساعيد نِعمَّ الرجل الشامخ : سراجاً هادياً، وعالياً كالمنار، ووارفاً كالظل، وزاخراً كالنهر، وعميقاً كالبحر، ورحباً كالأفق ، وخصباً كضفاف النهر، ومهيباً وخفاقاً كالعَلَم، لا يرجو ولا يخشي إلا الله، طاقته لا تنضب، كأن وراءها المدد الكبير الذي يرفدها وكأنه سرٌ من أسرار الخلود العلمي المنشود.
ولن أنسي كلماته الجميلة والهادفة وهو يقول في الصفحات الأولى من كتابهِ الموسوعي: (حصادُ نصف قرنٍ من العطاء): “إجعل حياتكَ قاموساً من الإنجازات المكتوبة، كي ترسم موقعكَ في عالم الفِعل، لا أرقاماً من السنوات التي تختفي دون آثارٍ حقيقيةٍ، وكنتَ دوماً تخشاها بالفعل”، وقوله أيضاً في مقدمة الكتاب ذاته: “يعيش الإنسان على هذا الكوكب السيار منذ نعومة أظافره محاولاً بالدرجة الأولي أن يثبت حقه في الوجود قولاً وعملاً، وأن يتأقلم مع الظروف المتنوعة الملائم منها وغير الملائم بما يحقق الصالح العام، وذلك عن طريق التفاعل النشط مع بني جنسه من كل الأطياف والمعتقدات والثقافات تارة، ومع البيئة الطبيعية المحيطة به وما فيها من تنوعٍ من حيث التضاريس والأجواء والمياه والنباتات والثروات تارة أخرى. كل ذلك من أجل أن يكسب ثقة الآخرين، وأن يتعامل معهم للحصول في نهاية المطاف من المجتمع الذي يترعرع فيه، علي ما يسمى علمياً بالقبول الاجتماعي. وقد ينجح ذلك الفرد عشرات الآلاف من المرات في حياته الطويلة، من خلال الخبرات اللامتناهية التي يمر بها، نتيجة هذا التفاعل اليومي المزدوج مع البيئتين الطبيعية والبشرية، وقد يفشل أيضاً آلاف المرات الأخرى، وكل هذا يعود إلي سبب ٍ مهمٍ للغاية، يتمثل في أنه لا يعيش منعزلاً بمفرده في جزيرةٍ نائية علي سبيل المثال، بل يتم ذلك ضمن انتمائه إلى مجموعاتٍ كبيرةٍ أو صغيرةٍ تفرض عليه أن يجد له مكاناً متميزاً بينها، مستخدماً بطبيعة الحال ما أكتسبه فعلا بمفرده أو بالتعاون مع غيره، من المعارف الكثيرة ، والمهارات المفيدة ، والاتجاهات المرغوب فيها”.
كما لا أنسي قوله بأن الكاتب الذي لا يعي منهجه بدقة، ولا يستطيع القُراء التمييز بين أسلوبه وأسلوب غيره من المؤلفين، فإن عليه أن يتوقف فوراً عن الكتابة، لأن من لم ينتقل بعد من طور التتلمذ البسيط، فعليه أن ينتظر طويلاً حتى تكتمل شخصيته العلمية والفكرة والثقافية، وينفرد قلمه وينضج ذهنه.
وفي النهاية، فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي أستاذنا الكبير” الدكتور جودت أحمد سعادة المساعيد” حقه من الإبداع والتميز والبذل والعطاء في مجالات البحث العلمي والتأليف الجامعي والحضور الفكري والثقافي والاجتماعي، الذي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المعطاء، الذي يعرف كيف يتفاعل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، ويقدم له الأفكار العلمية والتربوية المعاصرة، التي تساعد الأجيال الصاعدة على التعامل بإيجابيةٍ وفاعليةٍ منشودةٍ مع القضايا والمشكلات التربوية والحياتية الراهنة، من أجل الوصول إلى الحلول الأقرب للدقة، والتي تسهم في نهاية المطاف بعملية تطوير المجتمع نحو الأفضل أولاً، وتنشئة الإنسان العربي المستنير ثانياً، بحيث أطلق عليه نفرٌ من المعجبين بإنتاجه العلمي الغزير والمتميز لقب العَلاّمة أ.د. جودت أحمد المساعيد وخصصوا له مكتبةً علمية بإسمه، مما يجعلنا نطلق عليه وبكل صدقٍ وتجردٍ وموضوعية لقب: ( العَلاّمة ورائد التنوير التربوي العربي المعاصر).
أ.د. محمود محمد علي
أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل
والمفكر العربي المعروف – جامعة أسيوط/ جمهورية مصر العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.