بقلم / محمـــد الدكـــروري
ذكرت المصادر التاريخية الإسلامية الكثير والكثير عن الإمام النووين، وهو شيخ الإسلام والمسلمين، وعمدة الفقهاء والمُحدّثين، وصفوة الأولياء والصالحين، وقيل أنه عندما دخل الإمام النووي دمشق فقام بمقابلة علماء دمشق وأول من لقي من العلماء خطيب الجامع الأموي وإمامه الشيخ جمال الدين عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربَعي الدمشقي وما اجتمع إليه حتى عرّفه مقصده ورغبته في طلب العلم، فأخذه وتوجه به إلى حلقة مفتي الشام تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء الفزاري المعروف بابن الفركاح، فقرأ عليه دروسا وبقي يلازمه مدة، وهذا أول شيخ للنووي، وفي هذه الفترة التي أمضاها النووي عند شيخه ابن الفركاح يقرأ عليه، لم يكن له موضع يأوي إليه كما يأوي أمثاله من طلبة العلم.
في المدارس الكثيرة المبثوثة في دمشق، فسأل النووي شيخه ابن الفركاح موضعا يسكنه، ولكن لم يكن بيد شيخه من المدارس سوى الصارمية، ولا بيوت لها، فدله شيخه ابن الفركاح على الكمال إسحاق بن أحمد المغربي بالرواحية، فتوجه إليه ولازمه واشتغل عليه، ومنحه الشيخ في هذه المدرسة بيتا لطيفا، عجيب الحال، فسكنه واستقر فيه، واستمر فيه حتى مات، قال اليافعي وسمعت من غير واحد أنه إنما اختار النزول بها على غيرها لحلها، إذ هي من بناء بعض التجار، وكان قوته بها جراية المدرسة لا غير، والجراية هو خبز يُوزّع على الطلبة كل يوم، بل كان يتصدق منها، ثم ترك تعاطيها، وأقام النووي في دمشق نحوا من ثماني وعشرين سنة، ومعنى هذا أنه حين قدم دمشق كان عمره ثماني عشرة سنة.
وحين قدمها لم يترك الإقامة بها كل هذه المدة إلا للحج، أو زيارة قبر الإمام الشافعي، أو بلده نوى لصلة أهله، وكل هذه الفترة أمضاها في بيت صغير في المدرسة الرواحية، يتعلم ويُعلم ويُؤلف الكتب، إلى أن وافته المنية، وبعد نحو سنتين من قدوم النووي إلى دمشق، صحبه أبوه إلى الحج، ويقول النووي فلما كانت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة جمعة، وكان رحيلنا من أول رجب، قال فأقمت بمدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم نحوا من شهر ونصف، وقال ابن العطار قال لي والده رحمه الله لما توجهنا من نوى للرحيل أخذته الحُمى فلم تفارقه إلى يوم عرفة»، قال: «ولم يتأوّه قط، فلما قضينا المناسك ووصلنا إلى نوى، ونزل إلى دمشق، صبّ الله عليه العلم صبا.
ولم يزل يشتغل بالعلم ويقتفي آثار شيخه المذكور ويقصد الشيخ المراكشي في العبادة من الصلاة وصيام الدهر والزهد والورع وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفي رحمه الله، وقال السخاوي وغيره إنه حج مرتين، وفهموا ذلك من قول الكمال الدميري فقد قال إنه حج مرة أخرى، ويستأنس أيضا من قول ابن كثير في تاريخه أنه حج في مدة إقامته بدمشق، ولما رجع من حجة الإسلام لاحت عليه أمارات النجابة والفهم، وتزود بمدد من الله في بيته الحرام وبركات من رسول الله صلي الله عليه وسلم، وحين استقر النووي في المدرسة الرواحية واطمأنت نفسه في مسجده أقبل على طلب العلم بكل ما يعتلج بقلبه وعقله من شغف وجد واستعداد، ولقد كان ذلك منه مضرب المثل، ومثار العجب، قال النووي وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض.