بيرم التونسي .. هرم الزجل العالمي


د.. محمود محمد علي

بعد غدا تهل علينا ذكرى ميلاد الشاعر الكبير بيرم التونسي ( 23 مارس 1893- 5 يناير 1961) ، وكان هذا الرجل قد قيل عنه بأنه يمثل شاعر العامية التي خشيت العربية على سحر بيانها من فصاحة عاميته، وهو المناضل القومي الذي خلَّد بأشعاره مغزى القيمة الوطنية للنضال في دفتر الطرب الوطني، وقد لُقب بـ”شاعر الشعب وهرم الزجل”، واعتبره النقاد رائداً لشعر العامية في مصر سار على نهجه من تبعه من شعرائها.
ولهذا تكمن قيمة الزجل، كما يقول صفي الدين الحليّ، بأنه فن قولي “لا يلتذّ به حتى يغنّى به ويصوّت”، أي أن رواجه مرتبط بالغناء والترديد والجريان على ألسن عامة الناس، ولئن عرف بيرم التونسي بالكتابة في أجناس أدبية عديدة، منها الشعر، السيرة الذاتية، المقامة، المسرح، المقال الصحفي الفكاهي وحتى أدب الرحلة، غير أنه برع في كتابة الزجل إلى درجة أن الكثير من النقاد يشيرون إلى أنه كوّن مدرسة جديدة في تاريخ الأزجال .
وطوال رحلته في الدنيا ترك بيرم منجزًا أدبيًا بالغ التميز وحقق تأثيرًا واسعًا كأحد مؤسسي شعر العامية المصرية، وتميز بيرم في شعره بنقده السياسي اللاذع، وعدم سكوته على مواقف الحكام، وكانت له تجربة شهيرة في ذلك مع الملك فؤاد .
كان بيرم، أشد الساخرين مرارة ، وأبدع من كتب الأوبريت الغنائي مثل «شهرزاد»، التي لحنها خالد الذكر سيد درويش، ومنها كان أغنية “أحسن جيوش في الأمم جيوشنا»، ومثل “عزيزة ويونس”، التي لحنها الموسيقار زكريا أحمد، ومنها أغنية “يا صلاة الزين على عزيزة”، وكذلك أوبريت “ليلة من ألف ليلة” للموسيقار أحمد صدقي، والذى أعاد تقديمها المخرج الراحل محسن حلمي، من بطولة النجم يحيى الفخراني، فحققت أعلى إيرادات فى تاريخ مسرح الدولة وإلى الآن .
ويضاف إلى ذلك مئات الأغاني والاسكتشات في الإذاعة والسينما، وكتابة الحوار السينمائي لبعض الأفلام، وبالطبع كل هذه الأعمال كانت يدا بيد مع أزجاله الاجتماعية والسياسية، التي جمعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في 12 جزءا، ولكنها مع ذلك لم تضم كل الأعمال، ويسعى الباحث الدكتور نبيل بهجت، لتعويض هذا النقص، بإعادة إصدار أعمال بيرم الكاملة.
كتب الكثير عن شخصية الفنان محمود بيرم التونسي، باعتبار المكانة التي احتلها في الأدب التونسي والعربي المعاصر عموما، ولتعدد مواهبه في مجالات كتابة الازجال والأغاني والمسرحيات والمقامات والسيناريوهات والمقالات الصحفية بمختلف أنماطها، غير أن ما كتب حوله وحول إنتاجه الأدبي اقتصر فيه على تغطية فترة إقامته بمصر التي تشتمل على مرحلتين من حياته، مرحلة الشباب المبكر، ومرحلة الشيخوخة المتقدمة. أمّا مرحلة كهولته التي تمتد نحو عشرين سنة (1919 – 1938) فما تزال مجهولة في معظم جوانبها لأن بيرم قضاها خارج مصر بعد أن صدر قرار سياسي بإبعاده عنها. وقد انقسمت هذه المرحلة المهمة إلى ثلاثة أقسام، منها ثلاث عشرة سنة قضّاها مطاردا بين مدن فرنسا المختلفة: مرسيليا وباريس وليون وغيرها، وخمس سنوات أقام في أثنائها بتونس، وسنتان قضاهما ببلاد الشام بين لبنان وسوريا .
ولمّا كان من المتعذر الالمام بأطوار حياة بيرم التونسي الزاخرة بضروب المعاناة والانتاج، لأننا لم نتمكن بعد من الاطلاع على ملفاته السياسية في خزائن الوثائق ببعض هذه الدول، فإننا نقتصر على تقديم خلاصة عامة لحياته، حيث كانت بداية انطلاقته الحقيقية من الإسكندرية في أوج ثورة 1919 التي شهدت تصاعداً كبيراً للحسّ الوطني في كل أنحاء مصر بتعاونه مع صديقه سيد درويش ليقدم الثنائي مجموعة من أروع الأعمال التي تنبض بالوطنية وتُعدّ الآن من التراث الثقافي المرتبط بهذه الحقبة.
شهدت حياته الكثير من الأزمات التي كان أبرزها نفيه من مصر لمدة قاربت على الـ16 عاماً بعد أزمة مع الملك بسبب أشعار كتبها ينتقد فيها سياساته، إلا أنه لم يتوقف عن الكتابة حتى في أصعب الظروف وألّف مجموعة من أروع أعماله في المنفى .
حصل بيرم على الجنسية المصرية عام 1953 بعد قيام ثورة يوليو (تموز) التي كان من أشد المؤيدين لها لانتقاده الكثير من السياسات في العهد الملكي، فكتب عدداً من الأشعار الداعمة للثورة حتى إنه أول من ألقى شعراً بصوته في الإذاعة المصرية احتفاء بقيام الثورة .
والاسم الحقيقي هو محمود محمد مصطفى بيرم الحريري، وقد وُلد بيرم عام 1893 في حي السيالة بالإسكندرية لأسرة ذات أصول تونسية وتلقّى تعليمه الأول بالكتّاب، بعدها التحق بالمدرسة الابتدائية ولكنه لم يكمل تعليمه، إذ اضطر إلى العمل بعد وفاة والده في سن مبكرة، ولكن كان لديه اهتمام كبير بالشعر والأدب، فحرص على قراءة أمهات الكتب، وبالرغم من ذلك، كتب كلماته الأولى بالعامية المصرية بعنوان ’المجلس البلدي‘ ليذيع صيت هذه الأبيات في الإسكندرية كلها وتطبع منها 4 آلاف نسخة وهو عدد كبير في ذاك الوقت وتبدأ موهبة بيرم بالظهور للناس” .
بدأت شهرته عندما كتب قصيدته “المجلس البلدي”، التي انتقد فيها المجلس البلدي بالإسكندرية، لفرضه ضرائب باهظة، وقد أصدر مجلة المسلة في 1919، وبعد إغلاقها أصدر مجلة “الخازوق”، وصُودرت أيضا، ونفته السلطات لبلده تونس، بسبب مقالة هاجم فيها زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، ولقمع المستعمر الفرنسي التونسيين سافر لفرنسا، وعمل حمّالًا في ميناء مارسيليا لسنتين .
استطاع “التونسي” أن يزوّر جواز سفر ليعود لمصر، وألقى القبض عليه، وتم نفيه مجددًا لفرنسا، وهناك عمل في شركة للصناعات الكيماوية، وفصل منها لمرض أصابه، ليواجه ظروفًا معيشية قاسية إلا أنه استمر في كتابة أزجاله، وتم ترحيله في 1932من فرنسا لتونس بعد طردها الأجانب، وهناك أعاد نشر صحيفة “الشباب”، وأخذ يتنقل بين لبنان وسوريا، وقامت السلطات الفرنسية بإبعاده عن سوريا لإحدى الدول الأفريقية، وفى طريقه للمنفى توقفت الباخرة بميناء بورسعيد، نجح في أن يهبط ببورسعيد، وسارع للقاء أهله، ثم قدم التماسًا للقصر من خلال أحد النافذين فيه، وتم العفو عنه، وكان فاروق قد تربع على العرش، وعمل “بيرم” كاتبًا في “أخبار اليوم” ثم في جريدة “المصري” ثم في “الجمهورية” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.