رجاء أحمد على.. أيقونة الفلسفة الإسلامية


د. محمود محمد علي

ما زلت أؤمن ، بل ربما أكثر من أي وقت مضي ، بأن تاريخ الفلسفة افتقر لأصوات نسوية استطعن أن يخترقن القلاع الفكرية المشيّدة بإحكام من قبل الوعي الذكوري المتغطرس، بل تكاد تخلو القواميس المعرّفة بالفلاسفة من أسماء فيلسوفات سجّلن حضورهن على نحو متشظّي عبر محطات تاريخ الفلسفة. وقد تهاطلت العديد من الأسئلة اللاّسعة على هذا الإقصاء المتعمّد، إن لم نقل الممنهج للمرأة في أن تكون وجه آخر للمعرفة الممكنة حول قضايا أنطولوجية وأخلاقية ومعرفية تمّس الإنسان، هذا الكائن ذو الطبيعة المزدوجة.
وقد يعود ذلك إلى “الصورة التي رسمها أرسطو” للمرأة، ، وأثر ذلك على التراث العربي- الإسلامي، إذ وجدنا بكيفية أو أخرى الإمام أبو حامد الغزالي يعرض ”بعض الحقائق الاجتماعية السائدة التي تحط من قيمة المرأة وقدرها، مستنداً إلى أحاديث متواترة يصعب الأخذ بصحة معظمها” ، ويظهر هذا أيضا عند قراءة قواميس الفلسفة والفلاسفة وموسوعاتهم، سواء تلك التي أعلنت عن تقدميتها أو تلك التي قامت على أساس الفهم بغرض تجاوز الفكر الدوغمائي والجدلي، إذ نكتشف منذ الوهلة الأولى ذلك الوجود التراجيدي للمرأة كذات مفكرة، وكأن تاء التأنيث ثقيلة على مفهوم ”الفيلسوف”، مع أنّها لا تحمل بالمشروع الفلسفي، بل تصنعه وترسم آفاقه المستقبلية.
ولكن بفضل الجهود الإصلاحية والتي جاءت مع ثورة 23 يوليو 1952م ، فُتحت أبواب العلم الموصدة في وجوه البنات فاجتزن المراحل إلي التعليم العالي في وقت وجيز، فدخلت أفواجاً من الفتيات حرم الجامعة، وميادين العمل، والصالونات الفكرية، واخترقت المرأة بجدارة عالم الصحافة وعوالم أخري بعد جهد جهيد، وبعد غياب حضاري مزري أضر بوضع الأمة بأسرها وبمنظومتها القيمية الصانعة لمجريات التاريخ.
في نهاية تلك المرحلة برز اسم “رجاء أحمد على على” ، أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة القاهرة ، وهي واحدة من كبار الرواد في دراسة الفلسفة الإسلامية بمصر، والعالم العربي، وقد استطاعت من خلال بحوثها ومؤلفاتها أن تنقل البحث في الفلسفة الإسلامية من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كانت في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديها هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.
علاوة علي أنها تميزت من بين أقرانها بجمعها النادر بين الدراسة العميقة للفلسفة الإسلامية وعلوم الإسلام وعلوم العربية، وكان تحليلها للنصوص الإسلامية أنموذجاً جيد في خدمة النص، وتذليل ما فيه من غموض وتصحيح ما اعتوره من تصحيح أو تحريف ، وبالتالي فهي تمثل بحق رائدة نسائية في تحليل النصوص الدينية. يضاف إلي هذا أنها امرأة، فهي تستطيع أن تتفهم نفسية المرأة بحكم جنسها ؛ حيث تمثل رجاء احمد على التيار المتنور الذي يطالب بالنهوض بحال المرأة المصرية في الحياة العامة .
وشخصية الدكتورة رجاء أحمد على متميزة بطابع الجدية، وقد كان الحوار معها من أصعب الأمور، وخاصة مع أولئك الذين لا يحسنون استخدام عقولهم ؛ فهي لا تقبل هذراً ولا فوضي. والألفاظ لديها ينبغي أن تكون علي قدر معانيها ، فالتزيد مرفوض، والفيهقة مستحيلة . لذلك كانت دائرة أصدقائها ضيقة جدا، ومعارفها قليلين ، وصارت الفكرة التي شاعت عنها أن الصغار يخشون منها، والكبار يهابونها.
أما في حياتها العملية والعلمية، فقد حصلت على الليسانس الممتازة بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1981 ، وكانت أولى دفعتها ، ثم حصلت على ماجستير الفلسفة الإسلامية بتقدير ممتاز وكان موضوعها “الله والعالم في فلسفة ابن سينا “عام 1986 ، ثم حصلت على دكتوراه الفلسفة الإسلامية بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالطبع وتبادلها مع الجامعات الأخرى ، وكان عنوانها “نظرية الكمون بين الفلاسفة والمتكلمين” عام
1991، ثم حصلت على درجة أستاذا مساعدا للفلسفة الإسلامية عام 2001 ، ثم استاذا للفلسفة الاسلامية عام 2009 ؛ وقد عينت رئيس قسم الفلسفة عام 2014وحتى 2017/9/9.
حصلت رجاء أحمد على (مع حفظ الألقاب)علي عدة جوائز منها جائزة اندرية لالاند، وجائزة عصمت قنديل، جائزة زكى نجيب محمود، وكانت لها مهام إدارية وقيادية وأنشطة مؤسسية ، علاوة علي حصولها على عضوية الجمعيات الفلسفية
لها العديد من المؤلفات منها : النفس عند ابن باجة ، الفيض عند مفكري الإسلام ،الفيض بين الفلسفة وعلم الكلام ( الفارابي – الكرماني ) ، موقف الشيخ محمد عبده بين العقل والنقل ، مفهوم الحرية وعلاقته بمقامي التوكل والرضا ، رؤية الله بين النفي والاثبات دراسة في الصفات ، الفكر السياسي عند الفارابي قراءة معاصرة ،* الصابئة عقيدة وفلسفة ، المنهج النقدي عند جلارزا ،الفرق الكلامية في الشمال الافريقي ( الخوارج نموذجا )، في الفلسفة الاسلامية ، في علم الكلام ،الكمون بين الفلاسفة و المتكلمين ،الله و العالم في فلسفة ابن سينا ، العلية عند المعتزلة، المصادر المتعددة في فكر العامري ( السيرة الانسانية نموذجا ) ، قراءة في كتابات علي سامي النشار ، كتاب فلسفة القانون، كتاب مشكلات الفكر العربي المعاصر – الطبعة الأولي 2016م، كتاب أخلاقيات المهنة – الطبعة الأولي 2016م.. الخ.
ولقد شهد لها زملاؤها ومعاصروها لها بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما تتمتع به من خلق رفيع،. ولا غرو في ذلك فهي تمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثة ومنقبة، محققة ومدققة، مخلفة وراءها ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطتهم خلاصة فكرها وعلمها.
كما تميزت رجاء أحمد على بأنها أكثر جرأة في الرأي ‏وشدة في اقتحام القضايا‎ ‎الأكثر حساسية مع تحليل خاص ‏للصحوة الدينية وتاريخ حركات الإصلاح الحديثة، ‏خصوصاً‎ ‎عندما يدور الحديث حول مرحلة أصالة الفكر الإسلامي ؛ إذ ما تميز به هذا الفكر في اعتقاد رجاء احمد على من نظرة إلي الواقع تجعله مخالفاً في صميمه لما كانوا يردونه إليه من فكر يوناني علي وجه الخصوص.
وثمة نقطة جديرة بالإشارة نود أن نشير إليها وهي أن رجاء أحمد على من المفكرين المصريين الذين يؤمنون بأن الفيلسوف المسلم هو ابن الطبيعة الفكرية الإسلامية ، بيئة علوم القرآن الكريم والحديث – قد اعتاد موقفا من العالم الخارجي مستمدا من توجيهات ” الكتاب الكريم” للعقل الإنساني ، يقوم علي احترام حقيقة الموجودات الخارجية في ذاتها ، لأنها من خلق الله عز وجل وايجاده ، وبالتالي إذا كان المنهج الاستدلالي مستساغا في علم الكلام ، فهو ليس كذلك بالنسبة للمفكر المسلم ، وهو يواجه موقف تفسير الوجود حيث يجب أن يكون المنهج هو القائم علي التجربة من أجل تدبر الموجودات في ذاتها ، أي : أن يكون استقرائيا ، يهدف إلي كشف حقيقة الموجودات عن طريق ما تقدمه له م واقع، ترتبط جزئياته بعضها ببعض، طبق لسنة الله التي ليس لها تبديلا ، وهي ما سمي فيما بعد بالقانون العلمي.
والدكتور رجاء أحمد على من المؤمنين أيضا بأنه في مجال الفكر الإنساني عبر عصوره المتلاحقة ثمة ظاهرة ضمن ظواهر عديدة تسترعى النظر وتجذب الانتباه ، ألا وهى ظاهرة التأثير والتأثر بين الأجيال المتعاقبة ، بحيث يؤثر الجيل السابق في الجيل اللاحق ، ويتأثر هذا بذلك تأثرا تتعدد أبعاده أحيانا وتختلف مجالاته وتتفاوت درجاته بين طرفي الظاهرة ، أعنى بين المؤثر والمتأثر ، فتارة يكون التأثير من جانب السابق في اللاحق تأثيرا قويا عميقا ، وعلى درجة من الشمول ، تكاد تذهب باستقلالية المتأثر وهويته العلمية ، ومن ثم تظهر العلاقة بين الطرفين في صورة علاقة تابع بمتبوع ومقلد بمبدع ، وتارة يكون التأثير ضعيفًا في درجته محدودًا في مجاله؛ بحيث يظل كل من الطرفين المؤثر والمتأثر محتفظًا بفردانيته ، واستقلال نظرته وفكره ، ومن ثم تتوارى معدلات التأثير ، فلا تكاد تظهر .
وإن كان الأمر كذلك ، فإن لهذه الظاهرة في نظر رجاء أحمد على دلالات تسمح بالقول بأنها ظاهرة إيجابية مفيدة ومثمرة بدرجة تجعلنا نعدها عاملًا فاعلًا في تحقيق ما أنجزه الفكر الإنساني من تطور وازدهار على أصعدته كلها ؛ وخاصة على الصعيدين : الثقافي والحضاري للشعوب، والأمم التي سجل لها التاريخ ضربًا أو أكثر من ضروب التقدم والازدهار .
ولعل من أهم الدلالات التي تحملها هذه الظاهرة في طياتها تأكيد فعاليات العقل الإنساني، وطاقاته المتجددة، ومبادراته الخلاقة ، وهو ما يخول رجاء أحمد على القول في أغلب كتاباتها، بأن العقل قد أوتى من القوة ما يمكنه من أن يأتى أفعالا على درجة من التباين تكشف عن تعدد طاقاته وتنوعها . فهو في مجالنا هذا يتأثر ويؤثر، وينفعل عن عقول، ويفعل في غيرها ، ويأخذ ويعطى ويستقبل ويرسل ، ويستوعب الماضي ويتمثله بوعى واقتدار دون أن يفقد وعيه بالواقع إلى حيث هو جزء منه ، ثم يتجاوز ذلك إلى حيث المستقبل ورؤاه المستقبلية التي تؤثر بدرجة أو بأخرى في ذلك المستقبل.
وفي نهاية حديثنا عن الأستاذة الدكتورة رجاء أحمد على لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للأستاذة الفاضلة التي كانت وما تزال تمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.
تحيةً مني للدكتورة رجاء أحمد على التي لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع ، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا في رجاء أحمد على قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه “أشباه المفكرين” (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمرها قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاها الله لنا إنسانة نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منها عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.