عبير سعيد : الحرب والسياسية كلعبة الشطرنج

كتبت / عبير سعيد 

 

رقعة الشطرنج هي كرة أرضية وساحة للمعركة .. مجتمع متوازن ومتساوي كل الدول فيها متساوية ولها نفس الموارد الطبيعية والسياسية والسياحية وكذلك الإقتصادية ولا تدخل للثقافة أو الطبيعة فيها وأسماؤها محددة بإحداثيات مضبوطة .. عندما تتحدث فإنك تتحدث عن الرقعة بأكملها ليس عن مربع واحد بها وعن تطور حضارته وعراقته وتاريخه وسياسته لوحده.

فالحرب والسياسية كلعبة الشطرنج .. المباراة قد تكون أمام أعين الجميع لكن لا يكشف خباياها سوى المحترفين
الهواه قد لا يفهمون مغزى الحركة أو الهدف من ورائها ويمكن ينتقدوها
لكن المحترف يعلم الخبايا ويدرك أنها فخ ضمن خطة متعددة المراحل للوصول لكش ملك ..
والحقيقة إن مصر بتقدم لنا مباراة قوية جدآ لخنق إثيوبيا والوصول لكش أبي أحمد
هناك طبعاً تداخلات كثيرة من أطراف عديدة في المباراة.. والغالبية منها غير معلنة ويتم التعامل معها فى صمت ودون ضجيج .. ولكن ما نراه واضحا أن مصر نجحت بالفعل في قطع شوط طويل وناجح لتأمين منابع النيل بشكل دائم
وأنجزت بكفاءة لافتة المهمة المعقدة المرتبطة بعمل حصار جيوسياسي أو إستراتيجي على إثيوبيا وتجهيز مسرح العمليات إذا تطلب الأمر أى تحرك عسكري .. وتجاوزت كل الترتيبات والإستعدادات والتدريبات والمراحل اللازمة للوصول إلى الجاهزية الكاملة لأي إحتمال 
يعني إيه تطويق جيوسياسي؟
وإيه قيمته بالنسبة لمصر؟
وإيه دلالة تفعيل إتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال؟
وهل نستعد لمواجهة عسكرية قريبة بين مصر وإثيوبيا من بوابة الصومال؟

 

عبير سعيد : الحرب والسياسية كلعبة الشطرنج

الجيوسياسية تعني تأثير الجغرافيا في السياسية وقد صاغ المصطلح لأول مرة في بداية القرن العشرين العالم السويدي “رودلف كيلين” للدلالة على تأثير الجغرافيا على السياسة أو بمعنى آخر إزاي توظف الجغرافيا لتحقيق أهداف سياسية
ولما نقول تطويق جيوسياسي لدولة معينة تعني عمل حصار جغرافي لإخضاع هذه الدولة من خلال عمل علاقات سياسية وثيقة أو تحالفات مع الدول المجاورة لها جغرافيا
وهناك نوعين من التطويق الجيوسياسي
تطويق سلبي وتطويق إيجابي
التطويق السلبي زي اللي المؤامرة بتعمله مع مصر دلوقتي من حصارها بحزام من الحروب والنزاعات لإضعافها وتعطيل إقتصادها وضرب مشاريعها التجارية والإقتصادية مع دول جوارها وعمقها الجغرافي وحرمانها من حلفائها المحتملين من جيرانها
والتطويق الإيجابي بعمل تحالفات مع دول الجوار وتقويتهم عشان يساعدوك في تحقيق هدفك
بمعني أن تطويق إثيوبيا يحقق لمصر الآتي:

  •  هذا المشهد بيضغط على إثيوبيا سياسيا واقتصاديا وبيخليها في عزلة إقليمية وبيأثر على إقتصادها المنهار بالفعل، وبيفقدها أي دعم سياسي محتمل من هذه الدول اللي بتعتبر دول جوارها
  •  الاتفاقيات العسكرية دي بتشمل التعاون الأمني والاستخباراتي وتبادل المعلومات وبصفة إن هذه الدول على الحدود الإثيوبية فأكيد ليهم نشاط استخباراتي على الأرض داخل العمق الإثيوبي وممكن يمدوك بمعلومات مفيدة أو يمكن استثماراها خلال النزاع سواء على المستوى السياسي أو حتى العسكري
  • كسب الدعم السياسي من هذه الدول للموقف المصري أو على الأقل تحييد دورهم من الصراع بمنطق إن لم تكن معي فلا تكن ضدي
    سواء على مستوى التصريحات الرسمية أو داخل المحافل الدولية كمجلس الأمن أو الإتحاد الإفريقي والأمم المتحدة
  • في حالة العمل العسكري ممكن يكون في تحرك مشترك على الأرض لو تطورت الأحداث لمواجهة شاملة أو على الأقل إفقاد إثيوبيا أي دعم عسكري كان محتمل من هذه الدول ومصر بالفعل عملت ده مع كل دول الجوار الإثيوبي وهم ٨ دول السودان وجنوب السودان وأوغندا والصومال وجيبوتي وإريتريا وبورندي وكينيا
    ما يجعل الأمر يرتقي لكونه حصار حربي متكامل (دون إغفال دولة واحدة) كمرحلة أخيرة من التطويق الجيوسياسي

كيف نجحت مصر في تحقيق ذلك؟!

مصر في الفترة بعد 2011 كانت بتعاني من إن معظم الدول الإفريقية كانت منحازة للموقف الإثيوبي وتم توقيع إتفاقية عنتيبي في ٢٠١٠ بين عدد من دول حوض النيل بدون مصر اللي رفضت التوقيع عليها بسبب تجاوزها في حقوق مصر في النيل
ولكن من بعد 2013 بدأت مصر سياسة النفس الطويل وبدء تنفيذ خطة التطويق الإستراتيجي من خلال إحياء تحالفات مع الدول الإفريقية خصوصا الدول المجاورة لإثيوبيا وعمل شراكات إقتصادية وأمنية مع هذه الدول لأن التعاون الأمني مرتبط بالتعاون الإقتصادي 
وبدأت رحلة مصر في التحالف مع دولة تلو الأخرى:

البداية كانت في ٢٠٢٠ بتوقيع مصر إتفاقية تعاون عسكري مشترك مع السودان تقضي بإمداده بكل ما يحتاجه من دعم للحفاظ على حدوده وبعدها بأيام تم توقيع إتفاقية تعاون إقتصادية ضخمة تشمل الربط الكهربائي والربط من خلال خط للسكك الحديدة وغيرها من المشروعات المشتركة
بعد كدا في ٢٠٢١ تم الإعلان عن توقيع مصر وأوغندا المجاورة لإثيوبيا إتفاقية تعاون عسكري استخباراتي بمقر المخابرات الأوغندية في العاصمة كامبالا بهدف التعاون العسكري وتبادل البيانات الاستخباراتية بشكل منتظم
 أيضا في نفس التوقيت كان هناك وفد رفيع المستوى في دولة جنوب السودان المجاورة لإثيوبيا برئاسة وزير الزراعة المصري لتوقيع إتفاقيات تعاون مشتركة وعمل مشاريع تنموية مشتركة
 أيضا تم توقيع اتفاقية تعاون في نفس العام عسكري مع دولة بوروندي في القاهرة لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين خلال زيارة رئيس الأركان البورندي لمصر
 أيضا تم الإعلان في نفس العام عن إتفاقية مماثلة مع دولة كينيا المجاورة لإثيوبيا في العاصمة نيروبي
وفي ٧ فبراير ٢٠٢٢ أستقبل الرئيس السيسي، نظيره الجيبوتي “اسماعيل عمر” وتم بعدها زيارة تاريخية للسيسي لجيبوتي
وفي نهاية المباحثات تم التوقيع على مذكرة لإنشاء المنطقة اللوجستية المصرية في جيبوتي.. و ده معناه ببساطة أول حضور إقتصادي وعسكري واستخباراتي مصري دائم في جيبوتي ..
فرغم صغر مساحة جيبوتي وتواضع امكاناتها ومواردها، إلا أن موقعها الإستراتيجي يجعلها بالنسبة للقوي الاقليمية والدولية بمثابة نقطة ارتكاز عسكرية مثالية للأساطيل ووحدات القوات الخاصة ومحطات الاستخبارات والمراقبة والانذار المبكر..
لأنها بتشرف على مضيق باب المندب.. وتعتبر البوابة الجنوبية للبحر الأحمر.. يعني اللي يتمركز عند جيبوتي هيكون كاشف المنطقة من بحر العرب وخليج عدن لحد كامل البحر الاحمر..
وعشان كده الإعلان المصري عن بناء منطقة لوجستية مصرية في جيبوتي أمر يفوق ابعاده الإقتصادية بكثير
لأن الإعلان المصري عن بناء منطقة لوجستية في جيبوتي يعني الآتي :
أولا تأمين المدي العملياتي للأسطول الجنوبي المصري والمجموعة القتالية للميسترال “جمال عبد الناصر” من نقطة تبدأ بميناء بورسعيد شمالاً حتي خليج عدن جنوبا..
ثانيا المنطقة اللوجيستية المصرية في جيبوتي هتمنح الأساطيل المصرية القدرة على حماية الأصول المصرية خارج الحدود الوطنية.. بمعني أدق، مصر لا تتحرك خطوة خارج حدودها إلا وقد حازت على قدرة حماية أصولها الإقتصادية وثرواتها.. بمعني تاني: المنطقة اللوجستية المصرية ستقع ضمنياً تحت حماية الأسطول الجنوبي المصري وتشكيلاته التعبوية والمجموعة القتالية للميسترال جمال عبد الناصر.. وهي مجموعة قتالية مرعبة.. قطيع من الذئاب والأسود على هيئة فرقاطات وغواصات ولانشات صواريخ ودفاع جوي متحركة..
ثالثا جيبوتي هي الشريان الوحيد اللي بيربط اثيوبيا بالعالم الخارجي.. والتواجد المصري فيها يعني إمتلاك أدوات أكبر للضغط ليس على نظام أبي أحمد فحسب، بل، وعلى الشبكة الإقليمية والدولية الراعية له ولمخططات الضغط على مصر بنفس نمط وإطار معاهدة لندن 1840..وعشان كده نقدر نفهم الإهتمام المصري بجيبوتي منذ العام 2019 تحديداً..

وفي فبراير ٢٠٢٤ زار الرئيس الإريتري أسياس أفورقي مصر وتم توقيع عدد من الاتفاقيات المشتركة بينها اتفاقيات أمنية ومكافحة الإرهاب
وأخيرا في يوليو ٢٠٢٤ تفعيل الدفاع المشترك مع الصومال اللي هي دولة جوار حدودي مع إثيوبيا واللي قد يتحول من خلال بعض المصادر إلى تواجد عسكري دائم للجيش المصري في الصومال بعد محاولة إثيوبيا الاستيلاء على ميناء صومالي من خلال إقليم صومالي لاند الانفصالي دون شرعية قانونية أو دولية ما جعل الصومال تستنجد بمصر التي تعهدت بالدفاع عنها

في النهاية لازم تبقي عارف إن مصر بتجيد اللعب علي رقعة الشطرنج السياسية
وقادرة تعاقب إثيوبيا على تطاولها على مصر مهما طال الزمن وتمنعها من المساس بأمننا وبمقدراتنا
ومصر مش بتتحرك إلا لحماية اعتبارات الأمن القومي المصري
ودعم الصومال صحيح زي ما قلت هو إلتزام أخلاقي لكنه أيضا بيصب في صالح أمن مصر ومصالح مصر وحماية مصر
وبكدا يكون تم الإنتهاء من الكماشة المصرية أو خطة التطويق الجيوسياسي أو الحصار الحربي لإثيوبيا لعزل أديس أبابا إقليميا
عشان كدا نقدر نسمي إن كل التحركات المصرية دي هي تجهيز مسرح العمليات للمعركة المحتملة إذا تم التطاول علي حقوق مصر في النيل ولتأمين منابعه بشكل دائم مستقبلا بهذه التحركات لأن كل الأسباب دي هتجعل إثيوبيا في وضع لا تحسد عليه سياسيا وعسكريا واقتصاديا

وهنا مهم أجيب على نقطة أخيرة

هل الجيش المصري قادر على العمل في أكثر من جبهة بنفس الكفاءة والقدرة؟

شوف الجيش المصري صاحب اليد الطولي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ودا مش جديد بل حدث بالفعل في سنوات الحرب على الإرهاب..
وإن التطور الرهيب اللي حصل في الجيش المصري آخر سنوات جعله قادر على خوض أكثر من حرب في أكثر من جبهة في نفس الوقت وبكفاءة عالية سواء داخل حدودنا أو خارجها
وإنه مفيش جبهة ممكن تنسينا أو تشغلنا عن جبهة تانية
ومش معنى إنك بتواجه تهديد من جبهة إنك تتغاضى عن تهديد من جبهة تانية
واللي له حد قريبه في الجيش المصري فاهم كويس قوي اللي أنا بقوله ده
جيش مصر كبير جدا جدا ومنظم جدا جدا
وبالتطور اللي حصله آخر سنين من أذرع طولى في الجو والبحر وقواعد عسكرية هي الزكبر في الإقليم على أطراف الجغرافيا المصرية وبعمل مركز قيادة الدولة الإستراتيجية واحد من أضخم مراكز القيادة والسيطرة في العالم
لا خوف على مصر أبدا
ودى قوة مصر الحقيقية .. انها بتشتغل في كافة المحاور والملفات في نفس الوقت، رحلتك لجيبوتي واستدعاء اريتريا الى القاهرة وتفعيل الدفاع مع الصومال مش بس من اجل تطويق دولة السد الاثيوبي ولكن لاستكمال منظومة الامن القومي المصري في الجنوب لإطلالتهم على جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب وإعادة بناء الدور المصري في افريقيا ومد العلاقات الشعبية بين الشعب المصري والشعوب الافريقية الى ابعد مدي
وسواء أزمة السد اتحلت سلميا أو تطورت لمواجهات عسكرية فخطوات الدولة المصرية تدرس في براعة التطويق والخنق
ودليل على أن الدولة المصرية طورت المهارة دي بشكل غير مسبوق وبتناغم عبقري بين أجهزتها ومؤسساتها تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يدير المعركة بحكمة السياسي وشجاعة العسكري
ولما نبص على الخريطة نقدر نقول لإثيوبيا جيم أوفر 
عشان كدا لازم نكون مطمئنين أن هناك دولة قوية بكل أجهزتها بتعمل دون ضجيج وبدراسة وتخطيط وذكاء وصبر دون اندفاع أو تهاون لحماية مصر والشعب المصري من أي تهديد محتمل أيا كانت السيناريوهات
حفظ الله مصر وجعلها كما تستحق أمة عظمى بين الأمم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.