عمر بن الفارض.. الشاعر الصوفي العاشق


بقلم / د. محمود محمد علي


الشاعر الصوفي كأي إنسان يعيش في بيئة داخلية ممثلة بعوالمه الخاصة وبيئة خارجية ، لذلك تقع على الأنا مسؤولية فهم هذا الواقع والتصرف على أساسه ، فهو المسيطر على سلوك الشخصية يختار من البيئة الجوانب التي يستجيب لها ، ومن ثم يعمل بعمل على تكامل المطالب التي كثيرا ما تتصارع فيما بينها ، والشاعر الصوفي بهذا المفهوم ، واقع تحت ضغوط داخلية يدرك وجودها وحاجاتها للإشباع ، كما يدرك ظروف البيئة الخارجية وأوضاع المجتمع وما يفرضه من نظام وتقاليد وقيم ومعايير ، فتجد من حركة إشباعها ، وتتصدي لإحباط نشاطها ، لذلك فإنا نجد الشاعر الصوفي يلوذ بالرمز ، ليؤدي من خلاله معانيه الرمزية على القرآن ، لكن توظيفه لها كان بشكل خاص يتفق مع المفاهيم الصوفية للحياة والموت والتعلق بالخالق .
وكثيرون هُم من يعتبرون أنّ الشاعر عمر ابن الفارض هو أحد الشعراء الذين كانوا سبباً في بروز ذروة الشعر الصوفي العربي، كيف لا وقد بقيت قصائده موضع إعجاب للعشاق إلى يومنا هذا، وموضع جدل لكثير من الشرّاح الذين لاقوا صعوبة في الوصول إلى العمق الموجود في كلمات قصائده.
ولهذا يعد ابن الفارض المصري الملقب ب (سلطان العاشقين) من أکابر الشعراء الصوفية والعربية وأبرزهم بلا منازع، وله ديوان شعر بما في ذلك من عيون المعارف والحقائق الإلهية ومن قصائده التائية الکبری وهي من أفضل أناشيد المحبة الإلهية وفيها آراء حول الحب الإلهي ومراحله والحقيقة المحمدية، ووحدة الأديان ووحدة الشهود ووحدة الوجود والجمال الإلهي المطلق.
لقد عاش ابن الفارض مرتلاً أناشيد روحية، تعبّر عن حبه الذي تمزج رموزه بين عالمين، حتى حار الناس فيه، وترددوا في الحكم عليه، يقرأ البعض ديوانه على أنه يتغنّى بحب إنساني، بينما يراه آخرون وجداً بمحبوب أسمى هام به ذلك الملقب بـ«سلطان العاشقين».. ابن الفارض، الشاعر الصوفي، صاحب الأحوال، والشعور المرهف، والديوان الصغير حجماً، الفياض بالمعاني والرموز والجمال.
وذاعت قصائد ابن الفارض، فعطّرت جلسات الذكر، واستعان بها المنشدون الكبار في مصر وسواها من البلدان، وتجاوز شعر ذلك «السلطان» الحدود إلى جهات أخرى في هذا العالم، فترجم إلى لغات مختلفة، رغم رموزه وصوره المركبة ومحسناته، وكذلك أجريت بحوث بلا حصر حول القصائد وصاحبها الذي كان «من أصحاب النفوس التي خُلقت عاشقة بطبعها، منجذبة إلى كل جمال بفطرتها”.
ولهذا قال عنه جبران خليل جبران: “لم يتناول من مجريات يومه كما فعل المتنبي، ولم تشغله معميات الحياة وأسرارها كما شغلت المعري، بل كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراء الدنيا، ويغلق أذنه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية”.
وكان إذا مشى في المدينة تزدحمُ الناس عليه، ويلتمسون منه البركةَ والدعاء، ويقصدون تقبيل يده، فلا يمكّن أحدًا من ذلك، بل يصافحه، وكانت ثيابه حسنةً، ورائحته طيبة.. وكان إذا حضر في مجلس يظهر على ذلك المجلس سكونٌ وهيبة، وسكينة ووقار، وكان يحضر مجلسَه مشايخ الفقهاء والفقراء، وأكابرُ الدولة من الأمراء والوزراء والقضاة ورؤساء الناس، وهم في غاية ما يكون من الأدب معه، والاتضاع له، وإذا خاطبوه فكأنهم يُخاطبون ملكًا عظيمًا.. وكان يُنفق على من يزوره نفقةً متَّسعةً، ويُعطي من يده عطاء جزيلًا، ولم يكن يتسبَّبُ في تحصيلِ شيءٍ من الدنيا، ولا يقبلُ من أحدٍ شيئًا.
ولقد ولد عمر بن الفارض في القرن السابع الهجري ، وهو القرن المعروف تاريخياً بالقرن الذهبي للتصوف الإسلامي ، إذ أن التصوف وصل فيه إلى قمة التعبير عن نفسه في مختلف نشاطه عملاً وفكراً . والواقع أن هذه الحقبة كما يشير المؤرخون ظهر فيها أساطين وأقطاب التصوف الإسلامي عبر عصوره ، ومنهم عبد القادر الجيلاني ، ومحي الدين بن عربي ، وأبي حفص السهروردي ، وشهاب الدين السهروردي ، وجلال الدين الرومي ، وفريد الدين العطار ، ويونس إمري ، وشاعرنا الصوفي الكبير عمر بن الفارض .
وفي هذا القرن الاستثنائي في تاريخ التصوف اتخذ التصوف الإسلامي ملامح جديدة ومغايرة للقرون السابقة ، فأصبح للتصوف بعد نظري واضح وعميق عما كان عليه من قبل ، وفي هذا القرن انفتح التصوف الإسلامي على تجارب ثقافية ومعرفية متميزة ومتباينة أيضاً ، فتأثر بكثير من التيارات الفكرية والدينية المنتشرة في ذلك الزمان ، ولقد تأثر التصوف الإسلامي جد التأثر في هذا القرن بالتيارات الإيرانية الدينية لاسيما التي عرفت بحكمة الإشراق . ولا شك أن هذه التيارات المختلفة استطاعت أن تكسب التجربة الصوفية المعرفية أنماطاً معرفية جديدة وعمقاً وسعة وشمولية في التفكير لم يعرفها من قبل على حد توصيف المستشرقين بذلك . وفي هذا القرن وجدنا التصوف الإسلامي يطلق العنان لتجاربه والتي تجسدت في ميادين أخرى غير التأليف النثري وبيان الأحوال والمقامات ، مثل الشعر والموسيقى والفن المعماري .ولقد أطلق على هذا العصر لقب عصر التصوف الفلسفي .
ولا يعرف لابن الفارض آثاراً أدبية أو صوفية غير ديوانه وهو صغير الحجم وعدد أبياته ألف وثمانمائة وخمسين بيتاً ( 1850 ) ويعد تحفة أدبية وعلى صغر حجمه من أحسن الدواوين العربية من ناحية الموضوع والأسلوب ويدور على موضوع واحد فهو الشعر الصوفي في الحب والخمر.
ولديوان ابن الفارض خصائصٌ فنّية وصوفية، ولعل أظهر ما يمتاز به شعر ابن الفارض من الناحية الفنية هو الإسراف في الصناعة اللفظية أو الإغراق في المحسّنات البديعية، وهذا برأي النقاد طبيعيٌ لأنه كان يعيش في عصر يمتاز بكثرة الجناس والطباق والبديع وهو عصر التصنّع والتكلّف، مع ذلك قد امتاز شعر ابن الفارض برقة اللفظ مع الجزالة والمتانة ودقة المعنى وعمق الفكرة والسلاسة والوضوح وبصدق الحسّ وسلامة الأسلوب وبعد الخيال وجمال الصورة.
هذا من الناحية الفنية، أما من الناحية الصوفية، فقد كان الديوان ذو نزعة صوفية واضحة لما امتازت به نفس الشاعر من رقة الشعور ودقة الحس وسموّ العاطفة التي سيطرت على نفسه سيطرة قويّة .. فإذا هو يقضي حياته مقبلاً على محبوبه، كلفاً به مشوقاً إليه، مفنياً نفسه فيه، حتى ظفر من هذا كله بما قرت به عينه، واطمأن إليه قلبه، من اتصال بالذات العليا وكشف للحقيقة المطلقة التي هي عنده كل شيء في هذا الوجود وإليها يردّ كل موجود، ومن هنا كان ديوان شاعرنا أنشودة جميلة من أناشيد الحب.
ولقد تأثر الشاعر الكبير عمر بن الفارض بمحيي الدين بن عربي وفلسفته الخاصة بوحدة الوجود. بينما تأثر كذلك بفكر السهروردي التي تستند على ما يسمى الفيض الإلهي. وتتخلص فلسفة ابن الفارض في السير على الطريق للوصول إلى الحقيقة العليا والنور الأسمى. وشوق المتصوف للوصول إلى ذلك هو الذي يدفعه إلى الاتصال بخالقه. ولا يستطيع المرء أن يصل إلى الحقيقة العليا والنور الإلهي إلا إذا تخلص من شوائب النفس حتى يكون في مقدرتها أن تكشف ما وراء الحجب من خفايا وأسرار.
صحيح أنّ ابن الفارض لم يحظَ بالشهرة الواسعة كتلك التي حظي بها جلال الدين الرومي مثلاً، ولكنّ الكثير من قصائده باتت اليوم كلمات لأغان لا تكتمل سهرات الإنشاد الصوفية دون ترديدها، ويحفظها عن ظهر قلب الكثير من الناس، مثل قصيدة “قلبي يحدثني” التي غناها الكثير من المشاهير أمثال: حليم الرومي، ريم البنا، حسن الشافعي، غالية بن علي، وغيرهم، فيما تقول القصيدة في مطلعها:
قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ
لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي
ما لي سِوَى روحي وباذِلُ نفسِهِ في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف
فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
يا مانِعي طيبَ المَنامِ ومانِحي ثوبَ السّقامِ بِهِ ووَجْدِي المُتْلِفِ
ومن الأشعار التي ألفها ابن الفارض عن تجربته في مكّة:
يا سميري روّح بمكة روحي
شادياً إن رغبت في إسعادي
كان فيها أنسي ومعارج قدسي
ومقامي المقام والفتح بادي
وبعد تلك الفترة عاد ابن الفارض إلى مصر فأقام في قاعة الخطابة بالأزهر، كما كان الناس يقصدونه دائماً حتّى إنّ الملك الكامل ناصر الدين كان يزوره باستمرار، حتى توفي سنة 632 هـ الموافق 1235م في مصر ودُفن بجوار جبل المقطم في مسجده المعروف باسمه حتى الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.