د. محمود محمد علي
يري كثير من من المؤرخين الغربيين أن الفتوحات الإسلامية للبلاد كانت لنشر دعوة الخير، ومنع الظلم، والجهاد كان للسماح للناس للاستماع لدعوة الإسلام، وكان الأصل هو منع من يحول بين الناس وبين سماعهم عن سماحة الإسلام؛ فالفتوح الإسلامية في الأساس أرادت كما يري أنصار هذا الفريق كسر شوكة السلطات الطاغية التي كانت تحكم البلاد، وتحول بين شعوبها وبين الاستماع إلى دعوة الإسلام، أو كلمات القرآن، التي جاء بها رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، وتريد أن يبقى الناس على دين ملوكها، ولا يفكر أحد في اعتناق دين آخر، ما لم يأذن له الأمير أو الملك سواء في بلاد كسرى أو قيصر.
فأراد الإسلام أن يرد الأمور إلى نصابها، ويعيد للشعوب اعتبارها واختيارها، فلا يختارون هم بأنفسهم لأنفسهم كما يري أنصار هذا الفريق؛ ولا سيما في هذه القضية الأساسية المصيرية، التي هي أعظم قضايا الوجود على الإطلاق: قضية دين الإنسان، الذي يحدد هويته، ويحدد غايته. ومن هنا كانت الحرب الموجهة إلى هؤلاء الملوك والأباطرة، لهدف واضح، هو إزالة الحواجز أمام الدعوة الجديدة، حتى تصل إلى الشعوب وصولا مباشرة، وتتعامل معها بحرية واختيار، ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. فلا إكراه على إتباع الدين، أو لا فرض على دخول الإسلام بالقوة، أو إتباع عقيدة دون اقتناع.
فالإسلام دين عالمي، ودعوته دعوة عالمية، للبشر جميعا، وهي مأمورة بتبليغ هذه الدعوة، التي تعتبر رحمة الله للعالمين، ولا بد من العمل على نشر هذه الدعوة، والتي حوربت منذ بدايتها في قريش، وعاني أتباعها من التعذيب والتنكيل والاضطهاد، ولما هاجرت الدعوة للمدينة وأسست دولة جديدة حوربت أيضا، من عدة جهات، ولكنها انتصرت، وبدأت في نشر الخير، وخاضت الحروب مع من يمنع نشر دعوة الإسلام، ولتحقيق هدف آخر مهم وهو تحرير الشعوب المحتلة و المستضعفة في بلاد الشام والعراق ومصر.
وكان لا بد من مساعدة هذه الشعوب على التحرر من هذا المحتل الظالم، وقد كان الروم في مصر مثلا يسلبون حرية الناس ويستغلون خيراتهم، وينهبون ثرواتهم، ولهذا رحب الشعب المصري بالفاتحين الجدد، وانضم عدد كبير منهم للقائد عمرو بن العاص ليخلص مصر من ظلم الروم.
فكيف استطاع المسلمون بثمانية آلاف جندي فقط أن يفتحوا مصر، ويحرروها من سلطان الروم إلى الأبد إلا بأن المصريين رحبوا بالجيش الإسلامي، وانضموا له، وساعدوه ليخلصهم من الظلم، ولما فتحت مصر لم يندم أهلها أبدا على مساعدتهم للمسلمين، بل فرحوا بذلك جدا وسعدوا بحكم المسلمين بعد طول فترة الظلم على يد الروم كما يري أنصار هذا الفريق.
ثم لا بد أن نذكر أن من قبل دعوة الإسلام عن طريق السماح بنشرها، أو عن طريق التعامل مع تجار المسلمين الذي انتشروا في عدة بلاد، فانتشر الإسلام بدون قتال في عدة بلاد، فلم ينتشر بالسيف؛ لأن السيف لا يفتح القلوب، ولا يمكنه أن يفتح أرضا، أو يحتل بلدا، فهذا يحتاج إلى عمل آخر، من إقناع العقل، واستمالة العواطف، والتأثير النفسي في الإنسان، فالإنسان مجبول على النفور ممن يقهره ويذله كما يري أنصار هذا الفريق.
ومن ينظر بعمق في تاريخ الإسلام ودعوته وانتشاره كما يري أنصار هذا الفريق: يجد أن البلاد التي فتحها المسلمون، لم ينتشر فيها الإسلام إلا بعد مدة من الزمن، حين زالت الحواجز بين الناس وبين الدعوة، واستمعوا إلى المسلمين في جو هادئ مسالم، بعيدا عن ضربات السيوف، فتعامل الناس مع المسلمين وأحسوا بحسن أخلاقهم، وجودة في تعاملهم مع ربهم، وتعاملهم مع أنفسهم، وتعاملهم مع غيرهم، مما يحبب الناس إليهم، ويقربهم من دينهم، الذي رباهم على هذه المكارم والفضائل.
ولهذا تحكي لنا كتب التاريخ قصصا متواصلا عن سماحة المسلمين وحسن تعاملهم، لدرجة أننا سمعنا وقرأنا كما يري أنصار هذا الفريق أن أحد بلاد الشام بعدما دخلها المسلمون صلحا، وجمعوا من الناس الذين لم يدخلوا الإسلام الجزية، ولما انشغل المسلمون في حرب جديدة ولم يستطيعوا أن يحموا أهل هذه البلدة أرجعوا لهم أموالهم وانسحبوا، فاستغرب الناس كيف ترد لهم الجزية! فقال لهم قائد المسلمين: نحن أخذنا الجزية نظير حمايتكم، وانشغلنا في حرب أخرى ولا نستطيع حمايتكم فنرد لكم الجزية، فدخل هؤلاء بعد رؤية هذا العدل، وهذا التمسك بالقيم والمبادئ إلى الإسلام طواعية، ووقعت حوادث أخرى تدل على إقامة العدل، والبعد عن الظلم.
كما يري أنصار هذا الفريق أنه لما ظهرت سماحة الإسلام واتضحت موافقته للفطرة السوية فقد دخلت الشعوب في البلاد المفتوحة في دين الله أفواجا، واعتنقت الإسلام ديناً وفكراً ومنهجاً واشتركت في الدفاع عن دولة الإسلام. لذلك لا تسمع في البلاد المفتوحة عن “مقاومة شعبية” للفتح الإسلامي كما هو الحال في أي احتلال. ففي الاحتلال غصب للأراضي والأموال، ومحاولة لطمس هوية البلد المحتل وشعبه وفرض آراء حكامه وأهوائهم عليها، وأيضا لأن قادة المسلمين كانوا يتحلون بالأخلاق الحميدة، ويؤمنون باليوم الآخر فلا يظلمون، ولا يخربون، وهكذا كانت الوصايا والأوامر النبوية وأوامر ووصايا الخلفاء لقادة الجيوش الإسلامية تنهى صراحة عن قتل الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان المعتزلين في الصوامع، وتنهى أيضا عن إحراق الزرع أو الضرع أو تخريب أية مرافق عامة ينتفع بها الناس على اختلاف دياناتهم، أو هدم المساكن أو دور العبادة؛ وهذا مثال عن هذه الأوامر الواضحة من الخليفة للقادة والجنود “لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا -أي بالجثث- ولا تقتلوا طفلاً أو شيخاً كبيراً أو امرأة، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مُثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا للطعام، وسوف تمرُّون على قوم قد تفرغوا للعبادة في صوامعهم، فدعوهم على ما هم عليه”.
ولكل ما سبق فقد انتشر الإسلام بصورة سريعة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، أذهلت كل من اطلع على تاريخ الأمم عموما، وتعجب من سرعة دخول الناس في دين الله أفواجا؛ ولذلك ينبغي أن نسمي هذه المعارك الإسلامية فتوحا كما يري أنصار هذا الفريق.
إذاً، الجهاد الذي يتحقق عن طريق الفتوح كما يري أنصار هذا الفريق ، هو بغرض نشر دين الله، لا لاحتلال شعوب أخرى، وكلّ أرض فتحها المسلمون، أو سيطروا عليها، تصبح جزءاً من دار الإسلام، حتى لو خرجت لاحقاً نتيجة مقاومة أهلها واستردادهم لبلدهم، كما حدث في شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا والبرتغال)، حين غزاها المسلمون وضمّوها لدار الإسلام تحت قيادة بني أمية، وأطلقوا عليها “الأندلس”، التي هي عند إسلاميّي اليوم “الفردوس المفقود”، أو (فلسطين الثانية)؛ حيث لا يزالون يطمحون بإعادتها إلى حضن دار الإسلام، بعد أن استرجعها أهلها من العرب المسلمين، الذين حكموها لثمانمائة عام تقريباً!!
ولذلك من الافتراءات والأكاذيب التي توارثها خصوم الإسلام في الغرب كما يري أنصار هذا الفريق الزعم بأن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن الفتوحات الإسلامية كانت حملات عسكرية استعمارية على الشعوب والأمم التي دخلتها عقيدة الإسلام بالإكراه ، والواقع الذي يشهد به المنصفون من مؤرخي الغرب ومفكريه وعقلائه أن الإسلام لم يعتمد إطلاقاً على السيف في نشر دعوته، أو في دخول البلاد التي فتحها وأشاع فيها قيم التسامح والرحمة والإخاء .
فالإسلام من خلال كل البراهين الدينية التي تنطق بها نصوصه دين يعترف بالحرية الدينية ويكفل حرية العقيدة، ويرفض الإكراه في الدين والنصوص في ذلك كثيرة ومتنوعة، وحقائق التاريخ تؤكد أن المسلمين لم يكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام، وأنهم احترموا عقائد أهل البلاد التي فتحوها، وحافظوا على أماكن عبادتهم ووفروا لها الحماية والصيانة، وفتحوا أبوابها أمام أصحابها ليمارسوا شعائرهم وعبادتهم في حرية تامة كما يري أنصار هذا الفريق .
ولهذا فالفتوحات الإسلامية كما يري أنصار هذا الفريق لم تكن أبداً استعماراً ولا احتلالاً ولا نشراً لعقيدة الإسلام بالإكراه بين الأمم والشعوب كما يزعم بعض الغربيين الذين عميت أعينهم عن حقائق التاريخ، فالمحققون المتدبرون للتاريخ الذي يقرؤونه قراءة صحيحة غير سطحية ولا متعسفة كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي قد أكدوا في أبحاثهم وشهاداتهم التاريخية أن الجيوش الإسلامية انطلقت في اتجاهات متعددة لتحقيق أهداف إنسانية، في مقدمتها: أنها أرادت كسر شوكة السلطات الطاغية والمتجبرة التي كانت تحكم تلك البلاد، وتحول بين شعوبها وبين الاستماع إلى كلمة الإسلام، ودعوة القرآن التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام لأن هذه السلطات تريد أن يبقى الناس على دينها ومذهبها، ولا يفكر أحد في اعتناق دين آخر، ما لم يأذن له كسرى أو قيصر، أو الملك أو الأمير فالناس في تلك الأزمان كانوا على دين ملوكهم، ولا يجرؤ أحد على تغيير دينه، فأراد المسلمون أن يردوا الأمور إلى نصابها، وأن يعيدوا للشعوب اعتبارها واختيارها، لاسيما في هذه القضية الأساسية المصيرية التي هي أعظم قضايا الوجود على الإطلاق . قضية دين الإنسان الذي يحدد هويته ويحدد غايته ومصيره .
ومن هنا كانت الحرب الموجهة إلى هؤلاء الملوك والأباطرة وليس الشعوب لهدف واضح هو (إزالة الحواجز) أمام الدعوة الجديدة حتى تصل إلى الشعوب مباشرة وتتعامل معها بحرية واختيار، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة من دون خوف من جبار يقتلهم أو يصلبهم في جذوع النخل كما كان يحدث مع الذين يحاولون تغيير عقائدهم في هذه البلاد قبل دخول الإسلام إليها .
علاوة علي أن الفتوحات الإسلامية كما يري أنصار هذا الفريق كانت حروب تحرير للشعوب المستضعفة، حيث كانت شعوب المنطقة تعاني من ظلم الحكام الذين سلطوا عليها فترة من الزمن، فقد كان العالم في الجاهلية تتنازعه دولتان عظميان هما دولة الفرس في الشرق، ودولة الروم في الغرب، وقد سيطرت كل منهما على بعض البلاد، واتسعت رقعة إحداهما حيناً على حساب الأخرى وانحسرت حيناً اخر . كما نص القرآن على ذلك في أوائل سورة الروم: غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . وكانت دولة الفرس تمتلك بعض ديار العرب في العراق، وكانت الروم تملك بلاداً أخرى في الشام، كما تملك مصر وغيرها في شمال إفريقيا . وكان هذا لوناً من ألوان الاستعمار المتسلط المستكبر في الأرض بغير الحق، وكان على الإسلام مهمة باعتباره رسالة تحرير للعالم من عبودية البشر للبشر هي أن يقوم بدور إنقاذ هذه الشعوب . وكان لابد من مساعدة هذه الشعوب على التحرر من هذا المستعمر الغريب عنها، وهذا ما جعل هرقل يقول بعد دخول جيوش المسلمين إلى الشام: سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده .
وقد كان الروم يعتبرون مصر بقرة حلوباً يحلبون ضرعها، وإن لم ترضع أولادها، ولهذا رحب الشعب المصري بالفاتحين الجدد، وفتح لهم صدره وذراعيه واستطاع المسلمون بثمانية آلاف جندي فقط أن يفتحوا مصر ويحرروها من سلطان الروم إلى الأبد .