بقلم/ محمـــد الدكـــروري
إن الحظوظ موزعة في الدنيا وهو توزيع ابتلاء، فأي شيء أنت فيه من نعمة هو مادة امتحانك مع الله عز وجل، وأي حرمان حرمك الله إياه، فإن الحرمان نفسه هو مادة امتحانك مع الله سبحانه وتعالى، فأنت ممتحن مرتين، ممتحن فيما أعطاك الله، وممتحن فيما لم يعطك الله عز وجل، أليست الدنيا دار ابتلاء ؟ وأليست الدنيا دار امتحان ؟ وأليست الدنيا دار عمل ؟ وأنت في الدنيا ممتحن، فهذا الذي آتاه الله مالا كيف اكتسبه ؟ وكيف أنفقه ؟ وماذا فعل به ؟ وهل سخره في خدمة الحق أم في خدمة الباطل؟ وهل أنفقه إسرافا وبدارا، أم أنفقه باعتدال كما أمر الله عز وجل ؟ وهل بذر وأسرف أم أنفق في الحلال الذي يرجو به رضا الله عز وجل؟ إذن هذه الحظوظ التي آتاك الله تعالى إياها إنما وزعت في الدنيا توزيع ابتلاء، فأنت مُبتلى بمعنى ممتحن فيما آتاك الله، وممتحن فيما لم يؤتك، أي إذا لم يؤتك الله المال، هل وجب عليك أن تأخذه من طريق غير مشروع ؟
وهل تتعفف أم تتأسى ؟ وهل تتجمل أم تشكو حظك العاثر لكل إنسان ؟ وهل تأخذ مالا حلالا أم تأخذه حراما؟ وهكذا فإن مادة امتحانك مع الله ما آتاك الله تعالي، ومادة امتحانك مع الله ما لم يؤتك الله عز وجل، فلذلك الحظوظ توزع في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء، وإن الآخرة لا نهاية لها، فلعل الذي عانى الفقر في الدنيا يسعده الله في جنة عرضها السموات والأرض إلى أبد الآبدين، ولعل الذي أترفه الله في الدنيا وأنفق المال في معصية الله يشقى بهذا الإنفاق المنحرف إلى أبد الآبدين، فلذلك حينما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي الكريم قال ” يا محمد أتحب أن تكون نبيا ملكا أم نبيا عبدا ؟ قال صلى الله عليه وسلم” بل نبيا عبدا، أجوع يوما فأذكره وأشبع يوما فأشكره” ولعل الوضع الثاني أقرب إلى العبودية من الوضع الأول، وأن من العلاج هو الإيمان بالتعويض، فإن الله سبحانه وتعالى يعوض على المؤمن في الآخرة ما فاته من الدنيا.
وإن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، وأن تؤمن أن المال الحقيقي هو الذي تنتفع به فقط، وهو المستهلكات، فما سوى الذي تستهلكه ليس مالك، إنما هو كسبك وسوف تحاسب عليه، من أين اكتسبته ؟ وكيف أنفقته ؟ فعن عبد الله رضي الله عنه قال “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر، فقال عليه الصلاة والسلام “يقول ابن آدم مالي مالِي ، وهل لك يا بن آدم إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ أو تصدقت فأبقيت ؟ رواه مسلم، فإن ما الذي تملكه حقيقة ؟ هو الذي أكلته والذي لبسته والذي أكلته سوف يفنى وسوف ترى مصيره، والذي لبسته سوف يبلى، ولم يبق لك مما هو لك في الأصل إلا ما تصدقت فأبقيت.
وهى كلمة لك، فإن لك ما تصدقت، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوزع شاة وزع معظمها فقالت السيدة عائشة رضى الله عنها” يا رسول الله لم يبق إلا كتفها، أي ابقه لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا عائشة لقد بقيت كلها إلا كتفها” وهذا على العكس فالرسول الكريم ينظر إلى الأجر يوم القيامة وليست الدنيا، وأعلم ما هو مالك ؟ فإن مالك هو الذي أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت فهو ثلاثة أثلاث، الثلثان ليسا لك، ليس لهما رصيد في الآخرة، والثلث الذي يبقى في الآخرة هو الذي يبقى في سبيل الله، وما سوى هذه الأثلاث الثلاثة ليس مالك في الأصل إنما هو كسبك وأنت محاسب عليه، فغنظروا إلى وصية الرجل الذى أوشك على الرحيل وهو يقول يا أهلي، ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ أو حرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة علي.
وأندم الناس رجل دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، والمال نفسه ورثه أبناؤه حلالا فأنفقوه في طاعة الله فاستحقوا الجنة، وكسبه حراما، ولم ينتفع به، وأعطاه لغيره، لأنه كسبه عن طريق حرام استحق به دخول النار، وإن أندم الناس عالم دخل الناس بعلمه الجنة، ودخل هو بعلمه النار، وأندم الناس من دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، فيقول الله تعالى فى سورة الحديد “اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر فى الأموال والأولاد” وأن توقن أن مالك الحقيقي هو الذي أنفقته في سبيل الله، وأن الذي استمتعت به أكلت وشربت ولبست، ليس له رصيد في الآخرة ، وما سوى هذه الثلاثة ليس لك في الأصل، تحاسب عليه ولا تنتفع به.