بقلم / د. محمود محمد علي
يعد المتنبي واحدا من كبار الشعراء العرب الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس من أواسط القرن الهجري الرابع حتى وقتنا الحاضر، وتركوا في الدنيا دويّاً يصمّ الآذان، وأشعارهم تتردد حتى الوقت الحاضر على كل لسان، ولهذا كان المتنبي قامة من قامات الشعر العربي ، استطاع بموهبته أن يسجل اسمه في سجل التاريخ من ذهب ، فكان وما زال من أهم الشعراء الذين أنجبتهم العربية ، نظرا لما يتميز به شعره من جزالة الأسلوب ، وقوة الألفاظ والمعاني ، ورصانة القوافي ، ومتانة التراكيب ، والقدرة العالية على التصوير ، وجمعه لمختلف الأغراض الشعرية ، كما كان شعره صورة صادقة لتجارب عاشها حتى أصبح نموذجا يحتذي به في كتابة الشعر لما له من شمولية وتميز وذوق خاص.
هذا وأبو الطيب راقي الخيال دقيق التصوير ، بعيد المرمي فيه ، وهو شاعرٌ وحكيمٌ لا يشق له غبار ، فقد عُرف بشخصيته المميزة وما كان يكتنفها من غموض، وشعر المتنبي حيّر الناس، واستعصى عليهم فهم مقاصده، وهي الأسباب التي دعت ابن رشيق ليلقِّبه بمالئ الدنيا وشاغل الناس، وصاحب طموح ، يعتد بنفسه وشعره كثيرا ، أردا أن يغير ما كان عليه حاله ويجعل من نفسه فوق كل ملك وأمير ، فاتخذ من الشعر وسيلة حتى يصل إلى مبتغاه ، ثم هو حسن البلاء ، حين يجرد السيف ، أو يلاعب السنان ، بهذا وذاك يصرع الأبطال الدارعين ، ثم هو بعد هذا وذاك ابن الشعر الذي يقهر به الشعراء مهما ينبغوا ، ويقرع به النقاد مهما يبرعوا ، وهو من أجل هذا وذاك يزدري كثيرا من الناس ، أو قل أنه يزدري الناس جميعا ، وما أقدره على أن يعلن ذلك ويجهر به.
عاش المتنبي عمره ، وهو يحمل في صدره عزم الشباب ، ونفس طموحة ، وروح مغامرة ، وقلب قلق وثاب ، وجنون بالمجد والتعالي والعظمة ، وإيمان الواثق من نفسه ، وما إلى ذلك من الألوان التي تتلاقي ظلالها في حياة العصامين الذين يرتفعون بنفوسهم من الضعة إلي قمة المجد وذروة العلاء .. هذا هو المتنبي وهذه أظهر خصائص نفسيته ، فقد نشأ نشأة الفقراء ، عاش حياة ضنكة مغمورة بألوان الشقاء ، ولكن فقره لم يحيل دون تفتح مواهبه ، وما كان الشقاء ليحيل ذكاءه بلها وتوقد ذهنه خبلا ، أو ليقعده في أرض الكوفة مغمور الاسم لا يدوي صداه في الآفاق ، فقد تطلع المتنبي وهو في مقتبل عمره إلى الأمجاد ، ولم تصدمه الأحداث التي جابهته ، بل احتملها أبي النفس ، قوي الإرادة ، هادئ الضمير ، وظل في طريقه يقتحم المصاعب ويواجه الأهوال ، يجالد ، ويقارعن ويناضل ، ويسير من بلد إلى بلد حتي همد جسمه بعد أن ترك في دنيا الأدب دويا رن صداه حتى في آداب الأمم الحية .
وأبو الطيب المتنبي أو المتنبه كما يسميه المغاربة كوفي المولد (سنة 303 هـ) ، وضيع المنبت ، عربي الأصل ، يتعصب للعربية ، ويطعن في الأعاجم قبل اتصاله بهم ، نشأ نشأة بدوية وحافظ على بداوته رغم تحضره ، وفي البادية أخذ اللغة ، وفي بادية السماوة وهو في العشرين من عمره قام بالدعوة المختلف في شأنها أكانت نبوة أم طلبا للفتح ، وهل ادعاها هو أو اعادها عليه قوم آخرون ، فتحكي كتب الأدب عن نبوته سيرا مختلفة ، وتروي له معجزات كان يمخرق بها على أهل البادية ، فقد كان مشاءً قويا يسير من محلة إلى محلة ، ويري أخبار الأولي عند أهل الثانية ، يوهم أن الأرض تطوي له ن ويحبس المطر بضرب من السحر وينسب له قرآن في مائة عبرة لم يبق منها إلا بضع سجعات ، وقد سجن من جراء هذه الدعوة ، ثم أطلق والي حمص بعد أن استتابه ، ولا نعلم عن سجنه ولا المدة التي قضاها فيه ، والمعاملة التي عُومل بها إلا شئ قليل . وله شعر قاله في حبسه يستخف في بعضه بالحبس ، وهو أول ما قال فيه على ما يظهر ، وبعضه استعطاف واسترحام أرسله إلى الوالي ليخلي سبيله .
وبعد خرجه من سجنه قنع بالشعر وجعله مورد رزق وتردد على الأمراء في جهات الشام وقصد كثيرا من أعيان البلاد كالتنوخيين وابن طغج وبدر بن عمار (328 هـ) حتى انتهى إلى أبي العشائر الحمداني ، والي أنطاكية ، ومنه اتصل بسيف الدولة الحمداني صاحب حلب ، فأقام في ذراه وسجل ذكرى حروبه مع الروم في شعر غزير المادة ، حافل بالفرائد النادرة ، ثم قام بين بين أبي فراس الشاعر أحد أقرباء الأمير وبين المتنبي نزاع شديد هدد مركز الشاعر أحد أقرباء الأمير وبين المتنبي نزاع شديد هدد الشاعر عند أميره ، وتبعه خصام مع ابن خالوية النحوي خرج منه أبو الطيب مشجوج الوجه يسي دمه على ثيابه ، فانصرف من حاشية سيف الدولة بعد أن قضي بها حوالي العشر سنوات (337-346 ه ) ثم اتصل بعد ذلك بكافور الأخشيدي مدبر أمور مصر ، وطمع المتنبي في ولاية أو منصب كبير عند كافور ، ولما فشل مسعاه بعد أن طال انتظاره ،وكان بينه وبين الوزير ابن الفرات ، من قبل ، شئ من النفس – غادر مصر هاربا ليلة العيد الأكبر بعد أن مكث بها من سنة 356 إلى 340 ه ، وقصد الكوفة موطنه الأصلي ، وكان يتردد بينها وبين بغداد (350-33 ه) واغضب كبراء بغداد بإغضائه عنهم والترفع عن مدحهم فأهجوا عليه الشعراء والأدباء فنالوا منه حتى اضطر إلى مغادرة العراق إلى بلاد فارس وبقي بها من سنة 353 إلى 354 ه ، فقصد الوزير ابن العميد ثم عضد الدولة بن بويه ، الملك العظيم ، ونال منه العطاء الجم ، وبعد أن انصرف من عنده قاصدا الكوفة قتل في الطريق هو وابنه وخادمه قبل أن يصلوا إلى بغداد ( سنة 354 ه) وكان سبب قتله على الأشهر قصيدة هجاء في ضبة بن يزيد أثارت عليه قرابة المهجو فانتقموا منه .
والكثير ممن تعرضوا للكتابة عن المتنبي رموه بالكبرياء والغرور ، واتهموه بالغطرسة وجفاء الطبع ، حتى قال أبو على الحاتمي :” كان أبو الطيب عند وروده مدينة السلام قد التحف برداء الكبر والعظمة ، يخيل له أن العلم مقصور عليه ، وأن الشعر لا يغترف عذبه غيره ، ولا يقطف نوره سواه ، ولا يري أحد إلا ويري لنفسه مزية عليه ، وزعموا أنه لكبريائه وخيلائه ادعي النبوة ، وهو فتي في مقتبل الفتوة ، وطمع في الإمارة والملك ، وترفع عن مدح غير الملوك والأمراء … وهم حينما يروون هذه الأقاصيص التي تتعلق بكبريائه ، والتي أكثرها موضوع افتعله حساده لشوهوا سمعته ، ويخفضوا مكانته .