د. محمود محمد علي
تمر هذه الأيام ذكرى وفاة أبو عمار ، وحتى يفهم المرء إرث عرفات لا بد له من متابعة نشأة هذا الإرث تاريخيا، التحرير ، والمبادئ التي حكمت نشأته وتقلبت متأثرة بالمتغيرات التي ألمت بواقع الحال السياسي – فلسطينيا وعربيا وعالميا.
كان ياسر عرفات الرجل الذي أسس “حركة فتح” قد ولد بمصر وتحدث بلسانها لكنه لم يكن مصريا … كذلك كانت رئاسته وسلطته إلى سلطة أو دولة .. فتح عيونه على قضية وأغمضها عليها … اتهم اثيرين بخيانته واتهموه بالخيانة .. إنه أبو عمار الختيار أو ياسر عرفات وهو في الأصل يسمى محمد عبد الرحمن بن عبد الرؤوف بن عرفات القدوة الحسيني ، ومحمد عبد الرحمن هو اسمه المركب ، والحسيني قبيلة غزاوية غير تلك المقدسية الشهيرة ، في حين أن والدته من كانت تنتسب ولعائلة حسيني المقدسية ذائعة الصيت والتي ينحدر منها أمين الحسيني مفتي القدس وزعيم النضال الفلسطيني أيام الاستعمار البريطاني .
استقرت أسرة عرفات في العشرينيات من القرن الماضي في القاهرة وتحديدا في حي السكاكيني ، حيث كان الأب عبد الرؤوف يعمل بتجارة الأقمشة ، وزوجته ربة منزل ، ولهم سبعة أبناء السادس فيهم كان محمد عبد الرحمن الذي سيعرف لاحقا بياسر ، وقد ولد ياسر 1929 وبدأ طفولته فيها ومنها اكتسب لكنته المصرية التي رافقته طويلا ، وبعد أربع سنوات من ولادته توفيت أمه لينتقل للعيش في القدس عند أحد أقربائه في حي المغاربة.
هناك فتح عرفات الولد عيونه على الثورة الفلسطينية الأولى عام 1936 ثم ما لبث والده أن تزوج بامرأة أخرى ، وايتدعى ابنه من القدس للقاهرة مرة أخرى ليتربى ياسر مع زوجة أبيه ، الأمر الذي سيدفعه لكره والده والتمرد عليه ، حتى أنه لم يحضر جنازته عام 1952 ، ولم يزر قبره في غزة ولا مرة واحدة ، ولطالما كان عرفات كثير التردد على الأحياء اليهودية ، دون أن يعلم أحد لماذا! ، ما أغضب والده منه كثيرا ، وفي الأحياء اليهودية تعرف عرفات بموشي ديان الذي سيصبح لاحقا قائد جيش إسرائيل ووزير الحرب فيها ، كما كان عرفات الشاب كثير التردد أيضا على جلسات أمين الحسيني الذي كان الإجليز قد نفوه إلى القاهرة لترسم طفولة عرفات في القدس وحياته في القاهرة ملامح تكوين شخصيته فيما بعد ليأتي العام 1948 وتندلع أولى الحروب العربية – الإسرائيلية ليشارك فيها عرفات كجندي مصري ثم فدائي فلسطيني في غزة ، لكن نهاية الحرب ستكون سريعة ليعود بعد عام للقاهرة ويكما فيها دراسة الهندسة المدنية وينخرط في العمل السياسي الطلابي فانتخب كرئيس لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة في النصف الأول من الخمسينيات ، وخلالها جرت أحداث انقلاب الضباط الأحرار على الملكية في مصر ليتبنى الجيش المصري عقيدة القومية العربية وتحرير الأراضي العربية وتوحيدها لتندلع ثاني الحروب العربية – الإسرائيلية سنة 1956 .
وتم استدعاء عرفات للمشاركة فيها لكن مصادر تؤكد أنه قاتل في أرض المعركة ولاحقا تدخل أممي لحل النزاع حل عبد الناصر قوات الوافدين العرب والذي كان عرفات احدهم ليبدأ في التفكير بالهجرة وتقدم بين عامي 1956-1957 بعدة طلبات للحصول على تأشيرة ، وكان من هذه الدول كندا والسعودية والكويت ، لكن لم يقبل إلا طلبه السفر للكويت ، وهناك عمل في الهندسة بداية والتقى بأصدقاء قدامي كصلاح خلف ( أبو إياد) وخليل الوزير ( أبو جهاد) وفاروق القدومي وخالد حسن ، وليبدأوا التفكير معا بفعل شيء لخدمة قضية بلادهم التي كانت قد احتلتها إسرائيل لتشهد الفترة من عام 1958 -1960 ولادة حركة جديدة على ساحة النضال الفلسطيني والتي ستعرف باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني وتعرف اختصارا باسم ” فتح” ويرأسها محمد عبد الرحمن عرفات الذي كان اتخذ من اسم ياسر اسما له واختار اسم أبو عمار اسما حركيا وذلك تيمنا باسم آل ياسر والذي وعدهم الرسول الكريم بقوله ” صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة” .
وفي تلك الفترة ارتدى عرفات الكوفية الفلسطينية التي يترتبط هي الخرى بالنضال والكفاح الفلسطيني وتصبح رمزا للقضية برمتها ، وفي البداية اعتمدت الحركة على الاقتطاعات من مرتبات الأعضاء والمتعاطفين من الفلسطينيين أنفسهم ، ذلك أن عرفات لم يكن يرغب بالحصول على دعم دول بعينها كي لا تكون حركته مرهونة بسياستها ، لكن هذا في البدايات فقط ، ولكن لاحقا بدأ بالتعرف على رجال الأعمال الفلسطينيين الموزعين عبر العالم وفي الخليج وفي الدول العربية .
وفي قطر عام 1961 تعرف بمحمود عباس الذي سيصبح جزءا من الحركة والتي سيصبح لها حضورا على الساحة الفلسطينية والعربية سريعا ليأتي بعد ذلك بأعوام وتحديدا العام 1964 تأسيس منظمة تنضوي تحتها الحركات الفلسطينية والتي تعد ” فتح” جزءا منها وستعرف باسم ” منظمة التحرير الفلسطينية” PLO والتي سيعلن عن قيامها في مؤتمر القاهرة وتنال اعتراف الدول العربية وتتخذ من القدس مقرا لها ويعين أحمد الشقيري رئيسا لها .
وعقب تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بثلاثة أعوام اندلعت حربا عربية – إسرائيلية جديدة ستعرف لاحقا باسم ” النكسة” أو حرب حزيران ، وعلى إثرها تنتصر إسرائيل على الدول العربية وستتوسع دائرتها بعد احتلال مناطق جديدة أهمها القدس والضفة وغزة وسيناء والجولان ، وستتعرض لمصر لهزيمة كبيرة ليستغل عرفات الهزيمة في إعادة زمام القضية للفلسطينيين بعد أن كانت ملفا مصريا وعربيا ، ثم يأتي العام 1968 وتندلع معركة على الحدود بين الأردن وإسرائيل وتعرف بمعركة الكرامة وينتصر فيها الفلسطينيون تحت قيادة عرفات رفقة الجيش الأردني زمن الملك حسين على الجيش الإسرائيلي ليسطع نجم أبو عمار أكثر ويصبح بعدها بعام رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تعد الممثل الشرعي الوحيد لفلسطين .
وبعد معركة الكرامة بات المنظمة أكثر قوة ورأت أنها باتت قادرة على تحقيق انتصارات أكثر ، حتى أن وجودها في الأردن أخذ دفعة معنوية كبيرة وبات تنافس الجيش الأردني وسعت لإنشاء دولة داخل الدولة ورأت في الأردن قاعدة تنطلق منها لتحرير أرض فلسطين دون أي اعتبار لسيادة الأردن وسلطة الملك حسين ، الأمر الذي سيستفز الأردنيون وقيادتهم سيما بعد تصرفات أُعتبرت مسيئة لعلاقات الأردن الدولية قامت بها بعض الحركات الفلسطينية على الأراضي الأردنية كخطف الطائرات وتفجيرها ، مما دفع الجيش الأردني للتحرك لتبدأ مرحلة جديدة في حياة منظمة التحرير وفصائلها تحت قيادة عرفات وليبدأ فيما سيعرف لاحقا ” أيلول الأسود” حيث اندلعت عام 1970 مواجهات بين الجيش الأردني وفصائل المنظمة أسفرت عن مقتل العديد في كلا الطرفين وأحدثت انقساما عربيا كاد يتوسع لحربا بين الدول العربية لولا تدخل عبد الناصر في أيامه الأخيرة لينتهى العام 1970 بخروج فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان .
وفي لبنان بدأت مرحلة جديدة قادها عرفات تمثلت بالعمل المسلح وطرح الحلول السياسية على الطاولة والسعي لنيل الاعتراف الدولي بالقضية الفلسطينية ، فسرعان ما طرح عرفات فكرة إقامة دولة فلسطينية على ما يحُرر من أراضي فلسطين وقبل ضمنيا بفكرة ” حل الدولتين” ، ما سمح له عام 1974 بالذهاب إلى الأمم المتحدة وإلقاء خطابه الشهير هناك ، كأول رئيس لمنظمة غير رسمية يسمح له بإلقاء كلمة للعالم .
إن موقف عرفات السياسي دفع فصائل فلسطينية لتأسيس ما يعرف بجبهة الرفض والخروج من المنظمة ، لكن عرفات حاول الموازنة من خلال إبقاء خيار السلاح وبنفس الوقت عدم قطع الطريق على السياسة ، لكن سرعان ما ستندلع حرب أهلية في لبنان سيجد عرفان نفسه طرفا فيها وستؤدي لاجتياح إسرائيل بيروت عام 1982 وستنتهي أيضا بخروج الفلسطينيين من لبنان ، لكن هذه المرة إلى ” تونس. وتحت إسراف دولي لتصبح المقاومة الفلسطينية أبعد خطوات كثيرة عن الأراضي الفلسطينية .
فبعد طردسها من سوريا والأردن ولبنان والتي تعرف بدول الطوق حطت رحالها في تونس ، وهناك باتت الحلول السياسية أكثر واقعية من تلك العسكرية وهو أمر لم ينتبه له أبو عمار سابقا فيما اعتبر سنوات الفرص الضائعة حيث ظلت الضفة والقدس وغزة سنوات طويلة تحت حكم العرب ولكن مطالب المنظمة كانت كامل فلسطين دون وضع استراتيجية واضحة لهذا المطلب ، كما أن اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 اشترطت على إسرائيل إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 ، لكن المنظمة رفضتها .
ثم ليعلن من الجزائر سنة 1988 قيام دولة فلسطين مستغلا قيام الانتفاضة الفلسطينية التي فتحت أنظار العالم على القضية الفلسطينية أكثر لتبدأ مرحلة جديدة من حياة أبو عمار ليلقي بعدها السلاح ليرفع غصن الزيتون في مواجهة الاحتلال .
جاء عقد التسعينات وأقر عرفات رفقة المجلس الوطني الفلسطيني المنبثق عن منظمة التحرير مبادرة السلام الفلسطينية والتي تتضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل فكان الأمر مفاجئة لكل الأطراف وحتى الفلسطينيون أنفسهم باستثناء أن الإسرائيليين اعتقدوا أنها مناورة من عرفات ، لكن تلقف الإدارة الأمريكية للمبادرة الفلسطينية جعل إسرائيل ترضخ وتجلس على طاولات المفاوضات وبعد سلسلة من المفاوضات السرية تم الإعلان عام 1993 عن اتفاقيات أوسلو للسلام والتي قبلها بعام كان عرفات تعرض لحادث سقوط طائرته ومقتل ثلاثة من مرافقيه فيما تأثر هو بإصابته ستجعله يرجف تلقائيا عند الكلام ، وكذلك قبل ذلك بعامين استفز عرفات دول الخليج ودولا عربية أخرى بعد تأييده لغزو صدام حسين للكويت.
أحداث سرعت من بحث الرجل عن مخرج تمثل في اتفاقية أسلوا للسلام والتي جعلت العالم يعترف به رئيسا للسلطة الفلسطينية وكممثل شرعي ووحيدا لها ، لكنها بالمقابل خلقت له معارضين ومنشقين من داخل البيت الفلسطيني وخرجت له حركة حماس كمنافس قوي حيث رأى البعض في الاتفاقية اعترافا بإسرائيل بلا مقابل ؛ في حين رأى أنصارها حلا مؤقتا للوصول للحل النهائي الذي لم يأتي حتى الآن ورغم كل ذلك تمت الأمور وعاد عرفات ومنظمته للأراضي الفلسطينية عام 1994 وبدأ عهد جديد في حياة عرفات الذي أنفق من عمره 30 سنة سابقة حاملا فيها السلاح ضد من باتوا الآن جيرانها الذين اتسمت علاقته بهم بطابع من الشد والجذب ، فتارة تتهمه إسرائيل بالتحريض على العنف ، وتارة ينسق عرفات معهم أمنيا حتى أن سلطته اتُهمت بأنها باتت الشرطي الإسرائيلي على الفلسطينيين ونال على ذلك عرفات جائزة نوبل للسلام رفقة قادة إسرائيل .
لكن السلام لم يدوم طويلا أو هكذا بدأ وتحديدا مع اندلاع الانتفاضة الثانية التي بدأت مع مطلع الألفية الجديدة واتهمت إسرائيل عرفات بالوقوف وراءها والتحريض عليها والتي كانت سببا مباشرا بحصار إسرائيل لعام 2002 لعرفات ومرافقيه في مقر إقامته في رامله ما صاحب ذلك من اقتحام وتدمير لمقراته وقتل وإصابة مرافقيه ، وكانت رسالة إسرائيل واضحة من هذا التصرف أن لا سلطة تعلو فوق سلطة الاحتلال لتبدأ صحة الرجل الذي بات يلقب بالختيار ، حتى جاء عام 2004 حتى غادر عرفات وطنه لباريس وعاد إلى وطنه جثة حملها حملها الفلسطينيون على الأعناق ليودعوه في مثواه الأخير .
وهكذا كان رحيل ياسر عرفات استثنائياً، مثلما كانت حياته تماماً. فقد شيعته ثلاث قارات معاً: أوروبا وأفريقيا وآسيا. ونعاه معظم قادة العالم امثال فيدل كاسترو وجاك شيراك وطوني بلير والبابا يوحنا بولس الثاني وفلاديمير بوتين، وأقيمت له جنائز رمزية في جميع مخيمات اللاجئين في لبنان وسورية والأردن وغزة، وسارت مسيرات حزينة تكريماً لاسمه في باريس وروما وواشنطن وغيرها. وفي باريس حمل نعشه جنود فرنسيون. وعزفت موسيقى الجيش الفرنسي نشيد المارسلياز ثم النشيد الوطني الفلسطيني: فدائي، فدائي يا أرضي يا أرض الجدود.. فدائي، فدائي يا شعبي يا شعب الخلود..فلسطين داري، فلسطين ناري..فلسطين ثاري وأرض الجدود..الموت والطائرة المشطورة…. رحم الله أبو عمار .. جيفارا العرب .
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط
المراجع :
1-قناة استيب : ياسر عرفات من المهد إلى اللحد – وثائقي الختيار.. يوتيوب.
2-محمود عباس : طريق أوسلو ، بيروت شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994.
3- الموسوعة الفلسطينية ، دمشق هيئة الموسوعة الفلسطينية ، ج1، م2.