نابليون بونابرت.. الإمبراطور والمنظر الاستراتيجي لحروب الجيل الثالث


بقلم / د. محمود محمد علي

يعد نابليون بونابرت أحد أشهرِ الشخصيّات في التاريخ الأوروبيّ، فقد كانَ عسكريّاً في الجيش الفرنسيّ، وزعيماً سياسيّاً معنيّاً بالشؤون الأوروبية منذ عام 1799م وحتى عام 1815م، ويقال بأنه من المساهمين في ظهور الحضارة الغربيّة الحديثة، وتنوير الشعوب الأوروبيّة التي كانت خاضعة للأنظمة الاستبداديّة والإقطاعيّة؛ إذ لعبَ دوراً أساسيّاً ومهمّاً في الفترة التي تبعت الثورة الفرنسيّة، وأُطلقَ عليه لقب الامبراطور نابليون الأوّل ومنظر حروب الجيل الثالث.
علاوة علي أنه يعد أيضا أول قائد فرنسي يتوج بتاج الإمبراطورية الفرنسية في ديسمبر عام 1804 ، وهو أول فرنسى أيضا يحمل لقب الإمبراطور منذ ألف عام، وفى مراسم التتويج سلم البابا “بيوس السابع” نابليون التاج الذى وضعه فاتح أوروبا البالغ من العمر 35 عامًا على رأسه، ويعد نابليون بونابرت أحد أعظم الاستراتيجيين العسكريين فى التاريخ، وقد ارتقى بسرعة فى صفوف الجيش الثوري الفرنسي في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، وبحلول عام 1799، كانت فرنسا فى حالة حرب مع معظم دول أوروبا، وعاد نابليون إلى الوطن من حملته على مصر لتولى زمام الحكومة الفرنسية وإنقاذ أمته من الانهيار، وذلك بعد أن أصبح القنصل الأول فى فبراير 1800، أعاد تنظيم جيوشه وهزم النمسا، فى عام 1802، أسس قانون نابليون، وهو نظام جديد للقانون الفرنسي، وفى عام 1804 أسس الإمبراطورية الفرنسية، وبحلول عام 1807م، امتدت إمبراطورية نابليون من نهر إلبه في الشمال، ونزولاً عبر إيطاليا فى الجنوب، ومن جبال البرانس إلى الساحل الدلماسى، وذلك ابتداءً من عام 1812 بدأ نابليون يواجه الهزائم في مسيرته العسكرية، حيث عانى جراء غزو كارثي لروسيا، وخسر في إسبانيا أمام دوق ويلينجتون في حرب شبه الجزيرة، وفى أوائل عام 1815 أسس جيشًا كبيرًا جديدًا حقق نجاحًا مؤقتًا قبل هزيمته الساحقة في معركة واترلو فى 18 يونيو 1815، تم نفى نابليون بعد ذلك إلى جزيرة سانت هيلانة قبالة سواحل أفريقيا، حيث كان يعيش تحت الإقامة الجبرية مع عدد قليل من أتباعه.
وقد رقي نابليون بونابرت لرتبة جنرال وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ثم قائدا عاما للجيش داخل فرنسا وهو في السادسة والعشرين، لقد كان صعود نابليون سريعا ومذهلا. كان المحرك الرئيسي في انقلاب 18 برومير من العام الثامن (9 نوفمبر/تشرين الثاني 1799)، وحاز السلطة بالاستيلاء على منصب القنصل الأول قبل أن يستحوذ عليها تماما بإعلانه نفسه قنصلا “مدى الحياة”، ثم قام بتتويج نفسه إمبراطورا للفرنسيين في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1804.
وكانَ نابليون يمتلك عدّة صفات مكنته من حُكم فرنسا خلال فترةٍ قصيرةٍ، كما تمكنَ من غزوِ معظم الدول الأوروبيّة، بالإضافة إلى استغلال المواقف الإيجابيّة التي حدثت في حياته لمصلحته الخاصّة، ومن أهمّ هذه الصفات:
أولا: كان نابليون منذ صغرهِ قارئاً في التاريخ، والعلوم، والفلسفة، والكلاسيكيّات القديمة مثل قيصر والإسكندر الأكبر، فقد كانت قناعته أنّ السعيَ لاكتساب المعرفةِ باستمرار تساعده على إنجازِ مهمّاته في المستقبلِ بشكلٍ أفضل، فمثلاً عندما كانَ يخطط لحملةٍ عسكريّة على منطقةٍ ما كانَ يقرأ عن تاريخِ البلدِ وجغرافيّتها حتى يكونَ مستعداً لما سيواجهه فيها.
ثانيا: كانَ يمتلكُ مهارةً استراتيجيّة وتكتيكيّة مكنته كقائد عسكريّ من تحقيق العديد من الانتصاراتٍ في حملاته العسكريّة في أوروبا، فمن أصلِ 60 معركةٍ خاضها في حياته لم يخسر سوى في سبع معاركٍ منها، كما كان قادراً على تنظيم موارده سواءً على الصعيد العسكريّ أو الماليّ، فعلى الصعيد العسكريّ كانَ نابليون يتفقد أدقّ التحضيرات التي تؤهل جيشه ليخوضَ معركةً ناجحة، حتى أنّه كانَ يهتمّ بنوعيةِ الأحذيةِ التي سيرتديها جيشه لتكونَ مريحةً ولا تعيقهم في المعركة، أمّا على الصعيد الماليّ فلم يكن نابليون يقبل أن يدفعَ فواتيرَ كبيرةٍ لبناءِ قصورِ الإمبراطوريّة، وكانَ يراجعُ الحساباتِ الماليّة باستمرار.
ثالثا: كان قادراً على التعاملِ مع أكثرِ من موضوعٍ بنفسِ الوقتِ، حتى في أصعبِ الحملاتِ العسكريّة، وغالباً ما كانَ يقومُ بذلكَ دون حاجته لوقتٍ للتفكيرِ في الموضوعِ الآخر، وكانت المصلحة العامة من أولوياته في فترة حكمه؛ حيث أولى اهتماماً بحلّ قضايا الدولةِ الفرنسيّة وتحقيقِ استقرارها، فوضعَ قانوناً تشريعيّاً فرنسيّاً يعدّ أساس القانون الفرنسيّ الحاليّ، كما اهتمّ بمشاريع الدولةِ فكفلَ للمقاولين والعساكرِ حصولهم على رواتبهم دونَ تأخير، واستطاعَ السيطرةَ على العصاباتِ التي انتشرت بعدَ الثورةِ الفرنسيّة في بعض أجزاء البلاد. كانَ قادراً على تشكيلِ الرأي العام من خلال خطابته الشعبيّة التي كانت تأخذ المنحنى الشعبيّ لأغراضه الخاصّة.
رابعا: امتلكَ نابليون شخصيّةً شعبيّة تكوّنت بفعل صفاته السابقة التي لمعت مع ظهورِ شخصيّتهِ في فرنسا، وكانت هذه الكاريزما مؤثّرةً على الشعبِ والجيشِ الفرنسيّ، ففي المعارك كانَت شخصيّته دائماً ما تُكسبُ جنوده الثقةَ بقوتهم.
وبشكل سريع، أظهر الجنرال بونابرت البالغ من العمر 27 عاما دهاء عسكريا غير مسبوق بالحرب المستعرة بإيطاليا، ومنذ البداية، ألحق نابليون بونابرت هزيمة بجيوش البيودمونت (Piedmont)، حليفة النمسا، بمعارك ميليسيمو (Millesimo) وموندوفي (Mondovi) مجبرا بذلك ملك البيودمونت فكتور أميديوس الثالث(Victor Amadeus III) على القبول بمعاهدة السلام وتسليم مناطق السافوا (Savoie) ونيس لفرنسا.
ويوم العاشر من شهر أيار/مايو 1796، هزم بونابرت النمساويين بمعركة لودي(Lodi) قبل أن يوجه لهم صفعة ثانية بعد ثلاثة أشهر بمعركة كاستيغليون(Castiglione) يوم 5 آب/أغسطس. وبفضل ذلك، أجبر هذا الجنرال الشاب النمساويين على التراجع نحو أركول (Arcole) قبل أن يتمكن من فتح الطريق نحو مناطق التيرول (Tyrol) النمساوية عقب انتصار عسكري آخر بمعركة ريفولي (Rivoli) يوم 14 يناير 1797.
وفي خضم هذه الحملة ضد النمسا، سمحت جمهورية البندقية، المحايدة، للقوات الفرنسية بعبور أراضيها لمواجهة النمساويين. إلى ذلك، لم يكتف الفرنسيون بالمرور عبر أراضي البندقية واتجهوا بالتزامن مع ذلك لمساندة اليعاقبة (Jacobin) بالمدينة عن طريق تحريضهم على الثورة. وأمام هذا الوضع، أمر مجلس شيوخ البندقية بالإستعداد للحرب.
وخلافا لما كانت عليه منذ قرون عندما أذلت العثمانيين بمعركة ليبانت (Lepanto)، فقدت جمهورية البندقية أواخر القرن الثامن عشر بريقها العسكري حيث كان جيشها منهكا وغير قادر للتصدي للفرنسيين أو لثورة محتملة قد تهز المنطقة.
ومع سقوط منتوفا (Mantua) في قبضتهم مطلع شباط/فبراير 1797، أعلن الفرنسيون بشكل رسمي دعمهم لأي ثورة قد تندلع على أراضي البندقية. ويوم 13 آذار/مارس، شهدت مناطق بريشا (Brescia) وبرغامو(Bergamo) تمردا شعبيا. ومع تواصل وجود الشعور المؤيد للبندقية بالمنطقة، تدخلت فرنسا بشكل رسمي وقدمت الدعم للثوار مانحة إياهم كمية هامة من العتاد العسكري.
وفي يوم 25 أبريل، هدد نابليون بونابرت بالتدخل عسكريا ضد البندقية في حال رفض مجلس الشيوخ الاستقالة. وأمام هذا الوضع، قبل المجلس بشروط نابليون واستقال وبعدها بأيام تنحى لودوفيكو مانين (Ludovico Manin)، آخر دوق بتاريخ البندقية، عن الحكم واضعا بذلك حدا لوجود جمهورية البندقية التي حافظت على استقلالها لنحو 1100 عام.
ومع فرضه لإتفاقية كامبو فورميو (Campo Formio) على النمساويين يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر 1797، وافق نابليون بونابرت بشكل رسمي على تفكيك البندقية واقتسام أراضيها مع الإمبراطورية النمساوية.
ومن جهة أخرى فقد شكّل الغزو الفرنسي لروسيا عام 1812 نقطة تحول في حظوظ بونابرت، حيث أصيب الجيش الفرنسي خلال الحملة بأضرار وخسائر بشرية ومادية جسيمة، لم تُمكن نابليون من النهوض به مرة أخرى بعد ذلك وفي عام 1813، هزمت قوّات الائتلاف السادس الجيش الفرنسي في معركة الأمم؛ وفي السنة اللاحقة اجتاحت هذه القوّات فرنسا ودخلت العاصمة باريس، وأجبرت نابليون على التنازل عن العرش، ونفوه إلى جزيرة ألبا. هرب بونابرت من منفاه بعد أقل من سنة، وعاد ليتربع على عرش فرنسا، وحاول مقاومة الحلفاء واستعادة مجده السابق، لكنهم هزموه شر هزيمة في معركة واترلو خلال شهر يونيو من عام 1815 واستسلم بونابرت بعد ذلك للبريطانيين الذين نفوه إلى جزيرة القديسة هيلانة، المستعمرة البريطانية حيث أمضى السنوات الست الأخيرة من حياته.
وفي 1796، تزوج نابليون بونابرت من جوزفين دي بوهارنيز (1763 – 1814)، ارملة تكبره بست سنوات كان لديها اثنين من الاطفال المراهقين، وبعد اكثر من عقد من الزمان، وفي عام 1809 بعد ان لم ينجب نابليون بونابرت من جوزفين، الغى زواجهما حتى يتمكن من العثور على زوجة جديدة ويقوم بانجاب وريث لامبراطوريته وبالفعل تزوج في عام 1810 ماري لويز (1791-1847)، ابنة امبراطور النمسا، وفي العام التالي، انجبت له ابنهما، نابليون فرانسوا جوزيف تشارلز بونابرت (1811-1832)، الذي اصبح يعرف باسم نابليون الثاني وتم اعطاؤه لقب ملك روما ، وبالاضافة الى ابنه من ماري لويز، كان لنابليون بونابرت العديد من الاطفال الغير شرعيين.
وقد أتاح نشر مذكرات مواريه فرصة اغتنمها الضابط لانتقاد بونابرت علنا في أكثر من موضع، لاسيما عند حديثه عن واقعة تسليم سلطة القيادة العامة للجيش لخليفته الجنرال كليبر، وهروب بونابرت سرا إلى فرنسا، إذ لجأ مواريه إلى حيلة المقارنة النصية للمفاضلة بين أبرز قائدين للحملة، ويقول مواريه: “لم يكن بونابرت يعمل إلا لمصلحته الشخصية، ولم يضع أمام عينيه سوى رفعة شأنه. أما الجنرال (كليبر)، الذي لم يفكر في نفسه، لم يكن ينتظر من رفعة إلا ما يستحقه بالفعل دون أن يسعى إلى ذلك. ولو أن الأول (بونابرت) لم ير أملا في إمكانية الاستحواذ على السلطة العليا في وطنه (فرنسا) لبقي في مصر، ليقيم لنفسه دولة مستقلة ثمنها دماؤنا جميعا”، ويضيف: “إنه (بونابرت) مثل قيصر، يرى من الأفضل أن يكون الرجل الأول في القاهرة، بدلا من الرجل الثاني في باريس”.
وقد لخص الكاتب فرانسوا رينيه دي شاتوبريان شخصية نابليون بونابرت في عبارة واحدة “هذا الرجل الذي أحب عبقريته وأكره استبداده”. عبر قرنين من الزمان، لا يزال نابليون بونابرت مثار جدل. سواء أكان محبوبًا أم موضع انتقاد فقد ظل مركز الولع الفرنسي فهو أحيانًا “الصقر” ذو الإستراتيجية اللامعة، وأحيانا أخرى المحارب “الغول” كاره النساء ومعيد العبودية لسابق عهدها.
وتعد الذكرى المئوية الثانية لوفاته فرصة مهمة لإحياء الجدل مرة أخرى حول هذه الشخصية ودورها في تاريخ فرنسا. في حين يعتقد البعض أنه لا ينبغي حتى الاحتفال بهذا التاريخ، فإن المؤرخ شارل إيلوا فيال، مؤلف العديد من الكتب حول بونابرت ومنها “نابليون – اليقين والطموح” (من إصدارات بيران ومكتبة فرنسا الوطنية)، يسلط الضوء في مقابلة مع فرانس24 على المناطق الرمادية في شخصية ذلك “الجندي المحبوب”..وفي مايو 1821 توفي على الأرجح بسبب سرطان المعدة، وكان عمره 51 عاما فقط.
المراجع:
1- عبدالرحمن حبيب: نابليون يحمل لقب إمبراطور فرنسا فى مثل هذا اليوم.. اعرف قصة تتويجه عام 1804، اليوم السابع، منشور يوم الخميس، 02 ديسمبر 2021 03:00 م
2- ستيفاني ترويار وحسين عمارة: نابليون بونابرت، طاغية أم عبقري؟ الجدل الذي يحيط بصورة أول إمبراطور لفرنسا، 24 فرانس ، 03/05/2021 – 17:08
3- طه عبد الناصر رمضان: هكذا أنهى نابليون وجود جمهورية عاشت 1100 عام، العربية نت ، نشر في: 08 ديسمبر ,2021: 12:33 م GST
4- وائل جمال الدين: نابليون بونابرت في مصر بعيون ضباط حملته العسكرية الذين حاول إسكاتهم، بي بي سي ، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019
5-أنظر مقال في ذكرى ميلاده.. قصة حياة نابليون بونابرت الأول إمبراطور فرنسا، أخبارك،
6-ليلي العجايب : من هو نابليون بونابرت، مقال منشور في 26 يناير 2020.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.