بقلم / د. سلطان بن حباب الجعيد
لعل فرصنا باتت معدودة في اللقاء والعيش مع جيل مخضرم يحظى بمجموعة من المميزات والأخلاق الفاضلة والخبرات والتجارب المتراكمة التي صقلت حكمتهم ومعرفتهم ؛ وذلك بسبب لحاق بعضهم ببعض إلى عالم الآخرة بجوار الكريم الرحمن.
ومن آخرهم العم والشيخ معيوف بن مطر الجعيد من خامس المعانية، الذي وافته المنية في يوم الأربعاء الموافق ١٦ / ٣ / ١٤٤٤هـ، عن عمر جاوز الثمانين.
الشيخ معيوف – رحمه الله – واحدٌ من أفراد هذا الجيل ونموذجٌ لهم ، فهو – كما هم جميعاً – ابن الصحراء والبادية التي تخلق بأخلاقها المعروفة، وعلى رأسها الكرم والسماحة والنقاء.
فعندما تلتقيه تجد صدراً متسعاً باتساع الصحراء، فلا غضب، فالحلم والتأدة هي الطبع المترسخ في سلوكه وتعامله مع الناس.
وعندما تلتقيه تجد نقاء سريرة بنقاء هواء البادية الذي استنشقه فكأنما صقل قلبه، فلا خداع ولا مكر، ولا غل ولا حسد، فرجلٌ ظاهره وباطنه سواء.
وعندما تلتقيه أو تحل بداره، تجد الكرم والعطاء، وليس الكرم المصنوع والمتكلف، بل الكرم الفطري المطبوع المتأصل في طبعه وخلقه، والذي لازمه إلى آخر لحظة في حياته.
وعندما تلتقيه تجد التدين العميق، فابن الصحراء يعرف ربه جيداً، ورأى آياته ظاهرة للعيان، في سمائه وأرضه التي لا يحجبها شيءٌ عن عينيه، في الإبل والغنم التي يتبعها، في الأرض الميتة كيف يحييها، فأثمر كل ذلك خوفاً وحاجزاً عن حرمات الله وقياما بحقوقه وفرائضه.
وعندما تلتقيه تجد عقلاً قد أخذ من الصحراء صفاءها ونقاءها، فلن تعدم حكمة تسمعها أو رأياً تهتدي به.
والعم معيوف كأحد أبناء جيله المخضرمين، عاصر المدنيّة وعرفها، فأخذ من حسناتها، لكنها لم تستطع أن تلوثه بعيوبها، فبقي محافظاً على جوهره النقي، مشدوداً إلى أصله ومنشئه وقيمه وأخلاقه الأصيلة.
ثم جاءت لحظة الفراق، بشكل غريب ومفاجئ، وكأنها ملخص لحياته وأخلاقه.
فمات في الصحراء التي أحبها ونشأ فيها بعد أن توقف فيها وهو في طريقه مسافرا ليقضي ليلته. وهو يكرم ضيفه الذي توقف على ضوء ناره التي أشعلها لصنع قهوته قبل الفجر وهو لا يعرفه.
وهو متطهراً متوضأً قد صلى صلاة النافلة وينتظر صلاة الفجر.
إن كتابة هذا الكلام في تأبين أشياخنا وكبرائنا من الواجب علينا جزاء ما قدموه لنا، ثم هو أيضاً لإبراز صفاتهم التي تستحق أن نقتدي ونتأسى بها، ثم هو أيضاً دعوه لاستغلال حياة من بقي منهم، فنزورهم ونَسمع منهم وننهل من معينهم، ونُسمعُهم شكرنا وثناءنا، قبل أن نبحث عنهم يوماً ولا نجد منهم أحد.
رحم الله الشيخ معيوف وغفر له وجبر المصاب بفراقه وجمعنا وإياه ومن نحب في مستقر رحمته