د. محمود محمد علي
في ظل التطور التكنولوجي الكبير الذي تعرفه المجتمعات العربية، والاهتمام المتزايد بوسائل التواصل الاجتماعي التي باتت ترتبط بحياتنا اليومية، أصبح الحديث عن “الإنتاج الرقمي” داخل هذه الفضاءات، بمختلف المجالات، فنية أو سياسية، إعلامية أو مؤسساتية، فصاحبت هذا التطور شركات إنتاج خاصة بالمحتوى الرقمي، تتعاقد مع الفنانين والمؤسسات الإعلامية والأحزاب السياسية والحكومات والدول.. هذه الإنتاجات الرقمية التي بدأت تغزوه “التفاهة” انطلاقا من وصف العديد من رواد الشبكة العنكبوتية وفضاءات التواصل الاجتماعي، هذا ما جعلني أغوص في تعاليق وآراء طارحا سؤالا عميقا، من وراء تبني هذه التفاهة، ونشرها، وتسويقها للعموم؟
إن موضوع التفاهة من الموضوعات التي لا يجوز لي ككاتب أن أتغافل عنها، هذا الموضوع أصبح الآن يمثل موضوع الساعة ، وهو موضوع صعود التافهين واتخاذهم قدوات وتتبع الناس في حياة التافهين ، وقد قال الله قديما عن المنافقين “وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشبا مسندة يحسبون كل صيحة عليه” ، وقد حذر النبي –صلي الله عليه وسلم” من زمنا يعتلي به التافه والسدة ، ويكونون هم من يقودون الناس –سياسة واقتصادا وعلما وفنا وغيره.
وموضوع التفاهة لسنا نحن العرب والمسلمون وحدنا من نعاني من صعود التافهين ، ومن طرح التافه ، انتج لنا فن تافه ، وأداء تافه ، لا جودة ، تسطيح ، لاحيوية ، لا فكر ، لا نقد ، وهذا فإن موضوع هؤلاء التافهين يحتاج إلى وقفه .
بيد أن المشكلة ليست في التافهين وحدهم ، وإنما المشكلة في ألوف المتابعين لهؤلاء التافهين ، فلك أن تتصور أن هناك مغني واحد ، يغني أغنية واحدة في أسبوع واحد ويحصل على سبع مليون مشاهدة ، ولك أن تتصور أن شخص مثلي يكتب مقالا عن القيم والمشاهدة مئة أو مئتين ، ولك أن تتصور أن المجتمع هو أحيانا هو يدعم هؤلاء التافهين بتجهيز الحفلات وإظهارهم وإبرازهم للناس ، إنها مشكلة حقيقية ، وهي مشكلة التفاهة ، والسفاهة ، والتسطيح ، وعدم الجودة في كل شيء .
الرجل التافه أو المرأة التافه أو صناعة التفاهة أو السطحية ، أو الخلو من الطعم والأهمية ، أو الخلو من الشأن والجدوى ، أو انحطاط قواعد الأداء ، أو الرداءة ، أو تدهور الجودة ، أو غياب الأداء الرفيع ، أو تهميش نظام القيم ، وبروز الأدوار المنحطة ،وإيعاد الكفاءات ، وتخلو الساحة لهؤلاء وتُبعد التحديات ويبعد العلم الجاد والفكر العميق فتستبد هنالك هذه الشريحة – شريحة كاملة من التافهين – الجاهلين – المنتسبين للفن أحيانا وللعلم أحيانا ولكل أمور الحياة ، فيظهر التسطيح ، وتتشابه الشخصيات ، ويغيب العقل النقدي ، ويظهر العقل الجمعي ، ويظهر الفن الرخيص ، ويظهر هؤلاء التافهين على السطح كأنهم قدوة .
وهذه مصيبة ، نعم فالمصيبة أن يتحول هؤلاء التافهون إلى قدوات ، فتقدي الناس بهم في حركاتهم وكلماتهم وسكاناتهم ، وتتسلل الناس إلى متابعة أخبارهم وأحداثهم .
لسنا وحدنا في العالم الإسلامي من يعاني من التافهين ، حتى عقلاء أوروبا كتبوا في التافهين ، فقد كتب المفكر الكندي ” آلان دونو” كتابه الثري بالمعلومات ، وهو كتاب قد أحدث ضجة في عام 2017 سماه ” نظام التفاهة ” ، وقد قامت بترجمة الدكتورة مشاعل بجامعة الكويت وكانت ترجمة رائعة ، وفي الحقيقة أضفت عليه كثير من المعلومات ، وعندما تطرق ” دونو ” كتابه ، تطرق للتفاهة في كل شيء مثل التفاهة في عالم السياسة ، والاقتصاد ، والإعلام، وغياب الجودة والعقل والفكر .. إلخ.
هذا عالم جديد نعيشه اليوم حيث غاب فيه كثير من المفكرين والعقلاء ، بل أنظر بنفسك وقارن بين مفكرين في ستينات القرن الماضي ومفكري اليوم ، وقارن أيضا بين أغنية كانت تُغنى في الستينات وكلماتها المنتقاة وقارن ما بين الأغاني الآن ، بل قارن أي شيء جميل ورائع كنا نراه في الماضي وتجد شبيه اليوم، من الطبيعي ، هذه تفاهة ، بل تسطيح ، بل أصبح لا جودة ولا فهم ولا أداء ، وهذا كله عالم جديد طفى علي السطح.
كما كتب الدكتور ” ميلان كونديرا” وهو فرنسي من أصل تشكيي ، كتابا سماه ” حفلة التفاهة ” ، وأن العالم متجه نحو الرأسمالية الجشعة ، وهو مجرد الحصول المال لأجل المال ، وفي سبيل الحصول على المال لابد من دعم هؤلاء التافهين ليروجوا لنا ما نريد ، وهنا غاب ما يسمى بالاحتراف وظهرت المهنية ، فلا أصبح هناك جودة في الأداء ولا جودة في الصناعة ، حتى أنه للأسف لا توجد جودة في الطعام .
لقد غاب كل ذلك لأن مجموعة من التافهين أصبحت هي التي تسيطر على العالم ، وأصبح العالم خالي من الطعم ، والجودة ، والأهمية، وإنما السيادة فيه هو من يحقق معايير النجاح ، ومعايير النجاح اثنين : ربح مادي يؤدي إلى مال وثروة ، أو ربح معنوي يؤدي إلى سمعة وشهرة ، وللأسف هذه معايير النجاح الآن في نظام التفاهة الذي حدثنا عنه آلان دونو وكونديرا ، فإما أن تحصل على ربح معنوي من خلال السمعة والشهرة ، وهنا تتكالب عليك شركات الدعاية والإعلان لكي يعلنوا من خلال صفحتك لأن لديك أكثر من مليون متابع ، وللأسف فإن هذه هي معايير النجاح .
ولهذا أقول : لقد انتشرت التفاهة والرداءة في كل شيء ، فهناك الغنية الرديئة ، والكلمات المبتذلة ، والرقص الخليع ، والمسلسلات الهابطة التي لا تحل مشكلة ولا تقدم ثقافة ولا ترسخ لقيم ، ولا تعكس واقع المجتمع فيه ، فهى مليئة مليئة بالمغالطات من مشاكل الطلاق ، خيانات زوجية ، أو شذوذ ، أو انتهاك للحرمات أو ممارسة الزنا مع المحرمات ، أو سرقات ، أو مخدرات ، وهذه منتشرة الآن.
وهناك من صناعة التفاهة ، صناعة ما يسمى بمشاهير السوشيل ميديا ، ومن يتصدر الإعلام ممن مقدمي البرامج وضيوف البرامج ، حيث نجد أن مهاراتهم الوحيدة التي يملكونها إنما يملك قالبا حسنا ، أو وجها مضيئا مليحا ، أو يملك لسانا طليقا ، وهذه فقط هي المهارة الوحيدة التي يتمتع بها هؤلاء ، وللأسف فإن هذه ليست معايير للفكر والأداء والجودة ، ومن يحمل علما وثقافة وجودة فإنه لا يقدم ولا أحد يريده ، وهؤلاء الآن أصبحوا هم المشاهير ويقودون الفكر من فراغ فكري .
لقد تعددت أساليب التافهين في نشر تفاهاتهم وصناعة التفاهة ، حتى أصبحت حياة التافهين اليومية ، حديث الشباب وكلماتهم ولباسهم وأكلهم وسفرهم ، وطريقة عيشهم ، نموذجا يقتدى به للشباب والبنات ، حتى صاروا يقتدوا بهؤلاء التافهين ، حتى انخرط كثير من الشباب والبنات في حياتهم اليومية ، يقلدون هؤلاء ويتابعوهم .
لقد قام سوق الاستهبال واستحمار العقول ، ومن الطبيعي في هذا العالم المستهبل أن يعرف الشباب الممثل والراقص والفنان واللاعب ، ويجهل كبار المفكرين والفلاسفة ، وقد سئل العقاد : هل يعرف الناس الكاتب العظيم أم يعرف الرقاصة الفلانية ، فيتفاجئ بأن الناس يعرفون الراقصة ولا يعرفون الكاتب العظيم ، والسبب في ذلك يعود إلى ثقافة الاستهبال ، وثقافة التفاهة وهو أن الناس يعرفون التافهين ويجهلوا لطفي المنفلوطي ، والرافعي ، ومن لم يسمعوا به كثيرا من الشباب.
ومن الطبيعي في عالم التفاهة ألا يسعى الجيل الحالي في معرفة لا العلماء ولا الفلاسفة ، ولا المفكرين ، ولا المثقفين ، فيلا يدخل المحاضرة إلا مئة ، بينما الأغنية الواحدة وفي أسبوع واحد يستمع إليها أكثر من سبعة مليون ، ولقد بُهت عندما رأيت أن فرقة من الفرق الغنائية كان عدد المشاهدين لأغنيتها مليار مستمع ، وبهذا من الطبيعي أن يقم سوق هؤلاء .
إن أكبر مشكلة نعانيها اليوم هو أن تقوم الدول – مع الأسف- بدعم هؤلاء التافهين وبالتسويق لهم وبإظهارهم على أنهم قدوات للشباب والأبناء ، السر في ذلك هو أن تافه يدعم تافه ، أي التقيا على مذهب واحد ومنهج واحد .. إنه عصر البهرجة ، وعصر الابتزال ..
ومن ثم هؤلاء المشاهير حينما يحصلوا على هذه الأعداد الهائلة ، يتم استضافتهم ودعمهم من كثير من الشركات الرأسمالية المتوحشة ، سواء كانت شركات أدوية ، طبية ، مياة غازية ، منتجات صناعية .. أي شركة من الشركات المتسوحشة رأسماليا تستضيف هؤلاء في السوشيال ميديا للتسويق لمنتجاتها ، وهي منتجات تغيب منها الجودة والعمق والأداء الجيد ، إنما هؤلاء مسوقون لها .. إنها غاية الغايات من خلال الحصول على المال.
وفي الختام أرجو التوقف عن هؤلاء من خلال عدة حلول : الحل الأول ويكون بالتوقف ، والحل الثاني أنه يجب على الدولة والسياسيين أن يتوفقون علة عن دعم هؤلاء التافهين ، والحل الثالث أنه يجب على الأبوين أن ينتبهوا إلى جانب التربية أكثر من انتباههم لجانب الرعاية من طعام وشراب ، وإنما يتابعونهم في الأجهزة والبرامج وكذلك يناقش أبنائهم ويناقش معهم حياتهم الخاصة، والحل الرابع يأتي من خلال تقوية الإيمان بالله ، فالإنسان إذا ما ملأ قلبه بالإيمان امتلأ جوفه بهذه التفاهات.
المشكلة من يضبط الأمور، ويضع الأشياء في نصابها الصحيح في ظل الفوضى للوسائط الاجتماعية المجانية، من يمنع واحداً من الضحك على ذقون المرضى بالقولون والمتمسكون بقشة الفرح والشفاء من ذاك المرض العصري الجديد، خاصة القولون العصبي، والتي عجزت أكبر المخابر ومصانع الأدوية الأوروبية والأميركية في إيجاد توازن دوائي لمرضاه، ويأتي ذاك الخفيف اللطيف النحيف، وينعت أدوية عشبية وأنها الحل الجذري للمصابين بالقولون العصبي، وأن الشفاء الوحيد في شجرة الأشخر، ونبات الأرطأ، والمتوافرة في حانوت العطار «أبو ثمامة»، يمكن لصانعة محتوى كاف من التفاهة أن تجرنا نلهث وراءها نحو متجر لبيع أحذية تافهة، وشنط لحيوانات نافقة، والسبب أنها هذا العام «ترند»، الكثير اليوم يركض وراء صناعة التفاهة لأنها المتوافرة على الدوام، والموجودة باستمرار، ولا بديل صادق، وشيء واضح على خلافها، ولا شيء مضاد لسيادة فعلها، وما تفرضه على الناس حتى استسلم لها الجميع، ورفعوا شعار: مرحباً بصناعة التفاهة! وذلك حسب قول الأستاذ ناصر الظاهري في مقاله ” صناعة التفاهة”.
لقد أصبح المجتمع يقاد من بعض الأشخاص غير المؤهلين، وأصبحت كلماتهم وحركاتهم وسكناتهم بل ومصطلحاتهم تغزو الشارع، حيث إنه تتم دعوتهم لعمل إعلانات لكبرى الشركات، ويتم احضار صاحب الأغنية ذات الكلمات الهابطة والتافهة، وغيرهم من أصحاب الكلمات التي تضحك الناس،” هدي حنش، و روحو وتعالوا”، بل أكثر من ذلك فيتم دعوتهم للمشاركة في أكبر الأحداث وافتتاح المحلات التجارية، وفي المقابل لا ندعم أصحاب الإنجازات من الشباب المؤثرين في المجتمع، فيصبح التافهين أهم من كثير من رواد المجتمع من مدرسين وأطباء ومهندسين وإعلاميين وغيرهم من نخب المجتمع.
نحن من نصنع التفاهة بترك المحتوى الهادف، ونجري وراء التفاهة بقصد أو بدون، وحتى وإن كان من أجل الضحك والمرح، لكن هل تعلم أن بعد نشر الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي وتسجيل الاعجاب ومشاهدته يعطى الإشارة للخوارزميات البرمجية بالعمل مباشرة، فيتم تصنيف هذا المحتوى بالهام، وهو ما يعرف”بالترند” ويؤدي إلى انتشاره بسرعة كبيرة بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.
إن العقل العربي ملزم بتصحيح المسار الذي يسير فيه اليوم قبل فوات الأوان، فينأى عن صناعة التفاهة والتفاخر بها؛ إذ يكفي ما صنعناه منذ سنوات خلت من تباهٍ بأكبر ألوان المآدب، ومنذ أيام مضت بأكبر مزهرية؛ لأن في مثل هذا هدرًا للمال الذي نحتاجه في أمور أكثر إلحاحًا؛ كإصلاح الحفر في طرقاتنا، وترميم مدارس قد تنهار فوق رؤوس الطلاب ومعلميهم، وبناء جسور قد تنقذ أرواح أطفال سيعبرون عليها جيئة وذهابًا، فلا يكونون عرضة لسيل جارف يأتي على حين غرة يخطف أرواحهم الطاهرة، وهلم جرًّا…