مكانة محمد عبده في مشروع “محمد صالح محمد” العقائدي


أ.د. محمود محمد علي


كان محمد عبده أحد حركة الإحياء الديني في نهاية القرن التاسع عشر والتي ظهرت في وقت نكوص وانحدار الخلافة العثمانية وكشفت عن الفجوة الحضارية الهائلة التي تفصل العالم الإسلامي عن الغرب ، وقد دعا محمد عبده في مجمل فكره إلى معادلة تجمع ما بين التمسك بالتراث بعد تحريره من الخرافة والتقليد والاتباع الحرفي وبين تبني قيم الحداثة الغربية دون تقليد نمط حياته واستنساخ أسلوب ثقافته .
إن قراءة محمد عبده خارج سياق التاريخ قد تضعه في منزلة أقرب للمحافظة أو التقييدية وفق معاييرنا المعاصرة ، لكنه بمعايير زمنه كان ثوريا إلى حد ما ، وحركت أفكاره المياه الراكدة حينذاك ، وبنى عليها كثيرو من مفكرو الحداثة العرب المعاصرين أشياء وأشياء وأفكارا وأفكار .
والإمام محمد عبده قد ولد في عام 1849 في زمنا كانت مصر لا زالت تعيش ارتدات الصدمة الحضارية التي تعرضت لها عقب الحملة الفرنسية التي أتاحت لها الاحتكاك بالثقافة الغربية واكتشاف حجم الفجوة الحضارية التي تفصل الغرب عن الشرق .
تلقى محمد عبده علومه عن الأزهر الشريف حتى تخرج منه 1877 حيث تكونت لدى محمد عبده أثناء الدارسة حاجة الأزهر للإصلاح المؤسسي والمنهجي وتنامت هذه القناعة بعدما طالته الثقافة وتعرف على الثقافة الغربية عن قرب وتمكن من إحداث بعض الإصلاح في الأزهر عندما عينه الخديوي عباس حلمي مفتيا للديار المصرية عام 1899 وكذلك عضوا في مجلس إدارة الأزهر .
وكان محمد عبده قد وهبه الله سبحانه وتعالي فكر الإصلاحي وفكر التجديد ، ودائما ما نفرق بين الإصلاحي والتجديد ، وذلك لأن الإصلاحي يفترض أن ما سبق كان خطأ ، والتجديد يرى أن ما سبق كان خيرا ولكن لكل زمانا واجب أي يجب علينا أن نعيشه وندركه ولا نقصر في فعله ، والإمام محمد عبده كان يجمع بين الأثنين فهو مصلح ومجدد ومن هنا نراه في مشروعه التجديدي أراد أن يتعامل مع الواقع من خلال إدراكه لهذا الواقع وأن يتفاعل معه وأن يؤثر فيه وأن يغيره إذا كان يحتاج إلى تغيير فهذا هو مشروعه التجديدي الذي يبدأ من التعامل مع الواقع ، وقد رأيناه هذا وهو في الوقائع المصرية ورأيناه هذا وهو منضم للثورة العرابية وكذلك وهو منضم لمدرسة الأفغاني ثم يختلف معه من أجل قضية التعامل مع الواقع.
وأود هنا أن أتساءل : ماذا تفيد قراءة محمد عبده اليوم في إعادة بناء علم التوحيد ؟ ، وهل قدمت القراءة حركة الإحياء عند محمد عبده التي كان من أركانها فكرا نهضويا ؟ ، أم أسست للفكر الأصولي الماضوي المعاصر ؟
وهنا يجيئنا الأستاذ الدكتور محمد صالح محمد سيد أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة المنيا بجمهورية مصر العربية ، والذي كان قد كتب عن بعض جوانب مشروعه الفلسفي من ذي قبل على صفحات المثقف ، والآن أستأنف حديثي عنه مرة أخري ، حيث أكد في كتابه “إعادة بناء علم التوحيد عند الأستاذ الإمام محمد عبده ” ، أن علم التوحيد قد عانى في طوره المتأخر من التدهور والانحلال ، ولم يقو أصحابه على إبداع فكر جديد يواجه العصر ومستجداته ، بل ظلوا في إطار البحوث التقليدية ، وبنفس النمط الذي أثيرت به في كتب الأسلاف ، وظلوا يدورون في هذا الفلك ، فأصيب علم التوحيد بالجفاف ، ولم يبدع فكرا جديدا له أثره في مواجهة تحديات الحضارة الحديثة ، وما تفرزه من فلسفات وأيديولوجيات تهاجم الإسلام وتحاول جاهدة أن توقف مسيرته الحضارية.
على أن هذا العلم في نظر محمد صالح منذ القرن الثامن عشر ، قد بدأ نهضة جديدة بدأت تظهر بصورة أكثر وضوحا على يد الأستاذ الإمام الذي حاول أن يصوغ لعلم التوحيد وظائف جديدة انطلاقا من ان الإسلام دين وثقافة وحضارة فيجب أن يكون لهذا العلم دور فعال في توجيه اليحاة الاجتماعية والثقافية والسياسية للفرد في أي مجمتع إسلامي ، وللأمة الإسلامية كأحد التجمعات البشرية.
ومن هنا كما يقول محمد صالح بدا يتساءل الإمام عن الدور الذي يمكن أن تلعبه عقيدة التوحيد في حياة المسلم الروحية والمادية ، وفي حياة المجتمع الإسلامي ، وكيف يمكن لعقيدة التوحيد أن تنفذ إلى جوهر الوجود الإنساني ؟ ، وكيف يمكن أن تكون هذه العقيدة أيضا محررة للطاقات الإنسانية لكي تفعل وتؤثر ، فتحول هذه الذوات الخاملة البليدة إلى ذوات فعالة نشيطة مبدعة؟.
لهذا كان من أهم الوظائف في نظر محمد صالح التي وضعها الأستاذ الإمام لهذا العلم – وهو بصدد إعادة بنائه – أن يتحول الإيمان من مجرد الإيمان النظري إلى إيمان عملي يرسخ مبدأ العمل كشرط ضروري من شروط الإيمان ، ذلك العمل الصالح في مجال الفرد والمجتمع ، وهنا تبرز فعالية الإسلام الحقيقية ، فالعمل يرتبط بالعلم ارتباطا وثيقا ، فلا عمل بدون علم ، ولا قيمة لعلم أو اعتقاد بدون عمل ، ولهذا تتسع دائرة الإيمان لتشمل مع الاعتقاد والعبادة ، شئون الدنيا ، وتنظيم المجتمع ، والعمل على ريه وازدهاره ، وقضايا الإنسان وتحرره … إلى آخر تلك القضايا التي تشمل الدين والدنيا معا.
وهنا أدرك الأستاذ الإمام – وهو الشيخ المجدد – أن الصورة التقليدية لعلم التوحيد لا تسعفه في إنجاز هذه المهام ، فلابد إذن من إعادة هذا العلم ، ومن ثم يقول ” ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين كما ذكر محمد صالح وذلك في المسائل التالية:
أولا: أولا دور العقل في تأسيس الاعتقاد ؛ حيث يؤكد الإمام توكيدا تاما على أهمية العقل في تأسيس الاعتقاد الديني ، ولذلك لا يكف عن الإلحاج على ضرورة اطلاق سراح العقل ، ليمارس حريته في التأمل ، والتفكر ، والاستنباط ، والاستدلال …. لكي يؤسس المسلم اعتقاده الديني على أساس منه .
ثانيا: نبذ التقليد والدعوة إلى الاجتهاد ؛ وهو أمر مرتب على الأمر الأول كما يقول محمد صالح – وهو وجوب النظر العقلي في تأسيس الإيمان – فهذا العقل يجب أن يتحرر من التقليد ، منطلقا إلى الاجتهاد القائم على الفهم ، والاستنتاج ، والاستنباط ، واتباع المنهج العلمي الحديث في البحث ، ذلك الاجتهاد الذي يحاول صياغة فقه جديد يتلاءم مع تطور الحياة الإسلامية ، وما يجد فيها من جديد لا يعرفه أمس هذه الحياه، اجتهاد يخضع الحوادث للتكييف الإسلامي ، واجتهاد يبرهن براهين قطعية على أن الإسلام هو الدين النهائي للبشرية ، اجتهاد لا يقتصر فقط على استخراج الأدلة من الكتاب والسنة ، وإنما يتعد ذلك إلى مراعاة قواعد من وحي النص القرآني ، من شأنها تشيع روح الإسلام في كل ما نعانيه من مشكلات ، درءا للبحث عن مصادر أخرى لحل هذه المشكلات.
ثالثا: التأويل العقلي للنصوص الدينية ؛ وهو أحد فعاليات العقل في فهم النص الديني ، واستخراج معانيه الكامنة ، وقد نبه الأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح إلى أمرين مهمين : الأمر الأول : ألا يكون طريقا لتأييد مذهب عقدي أو فقهي بعينه ، مما يضطر المؤول إلى التعسف في التأويل موجها من خلال فكر مسبق . والأمر الثاني : لا يلجأ إلى التأويل إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، كدفع معاند ، أو إقناع جاحد ، أو إبراز قيم من الإسلام تعين الناس على تحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة ، أو لتطهير الشعور الديني مما يكون علق به من تصورات خاطئة ، أو التقريب بين الإسلام وروح العصر …. ، وفي كل الأحوال لابد وأن يكون التأويل مستوفيا لشروطه ، ولا يصدر إلا من قادر عليه .
رابعا : تحطيم المذهبية في علم التوحيد؛ فالأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح يرفض التعصب لمذهب بعينه ، انطلاقا من أن تعدد اجتهادات الأمة ، يدل على نضجها الديني ، ولكن الخطأ كل الخطأ في محالوة فرقة ما ، أو مفكر ما ، أن يفرض آراءه على الآخرين ، معتبرا اجتهاده الاجتهاد الوحيد الصحيح ، وباقي الاجتهادات فاسدة وضالة ، على نحو ما ساد في تاريخ علم التوحيد حيث ساد في هذا التاريخ منطق الفرقة الواحدة الناجية والباقي هلكى .. ، لقد دافع الأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح عن دور جميع العقول في الاجتهاد وحقها في الاختلاف ، انطلاقا من الأخذ بمبدأ التعددية ، ودحضا لأحادية الفكر والرأي .
خامسا: تحليل الأصول الإسلامية تحليلا عقليا يربطها بالعمل ؛ ومن فعاليات العقل ، تحليل الأصول الإسلامية تحليلا لا يقف بها عند اطرها النظرية ، بل يتعدى ذلك إلى مجال العمل ، فمثلا يرى الإمام أن الإيمان بالقضاء والقدر إذا تخلص من شناعة الجبر صار أصلا يدفع إلى العمل ويحفز الإنسان على الجرأة والإقدام ويخلق فيه الشجاعة والبسالة .
سادسا : المؤائمة بين الإسلام ومتطلبات العصر ؛ حيث يعرض الأستاذ الإمام كما يذكر محمد صالح عرضا يتلاءم ومتطلبات العصر ، فيوضج أصوله من : وجوب النظر العقلي ، وتقديم العقل على الشرع عند التعارض ، والبعد عن التكفير ، وقلب السلطة الدينية ، والاعتبار بسنن الله في الخلق ، ومودة المخالفين في العقيدة ، والجمع بين مصالح الحياة والاخرة ، … كل هذه الأصول تؤكد توكيدا تاما على أن الإسلام دين العلم والمدنية ، فهو دين العلم ، لأنه يشجع عليه ، ويهيئ له مناخه الصحيح ، ويزكي العلم ، بل يعتبره شعبة من شعب الإيمان ، وكذلك الإسلام دين المدنية فأصوله تؤكد ذلك… ونكتفي بهذا القدر وللحديث بقية…
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.