د. محمود محمد على
عندما تكون الحقيقة أصعب وأمر من الحكايات والروايات ، تكون قصص من نجا من سجون نظام بشار الأسد ، وعندما يسرح كاتب أفلام الجريمة بمخيلته لن يصل إلى ما وصلت إليه أدوات التعذيب في السجون والتفنن بالقتل ، ويؤكد من نجا من الموت أنه الجحيم ، فالسجون تحولت لقبور ، وكل من فيها هو في عداد الموتى أو قريب من الموت .
خرجت اليوم قصص أصعب من أن تروى وتصدق ، ولكن وبحجم الألم يولد الأمل للسوريين بمستقبل أفضل ، ففي سوريا عاد اللاجئون ، ولجأ بشار ، ففتحت الملفات ، وأٌفرغت المعتقلات ، لتكون شاهدة على حقبة هي الأقسى على السوريين .
فمن يصدق زنازين مخفية تحت الأرض ، وفرق الدفاع المدني تواصل البحث عن أي وجود بشري ، ومناشدات من محافظة ريف دمشق على مواقع التواصل الاجتماعي للعسكريين السابقين لاستخراج أكثر من 100 ألف معتقل يمكن رؤيتهم على شاشات كاميرات المراقبة ، ولكن لا يعرف مكانهم .
عزيزي القارئ دعني أحدثك عن سجن صيدنايا العسكري وما الذي كان يحدث فيه من سلخ للبشر ، وكيف كان رمز الرعب والإخفاء ، ورمز التعظيم والإعدامات الجماعية ، المكان الذي قد صعقت فيه الأجسام والأرواح في عهد حافظ الأسد ، وتحول إلى مسلخ بشري بكل معنى الكلمة تحت حكم ابنه بشار ، سجنا عمره أكثر من 50 عاما بسبب تاريخه الدموي الطويل ضمن أخطر سجون العالم ، والذي قد وضعت نهايته في الأسبوع الماضي في الثامن ديسمبر 2024 ، وشكل فتح أبوابه وإخراج مساجينه شعاع أمل ولحظة تحول في تاريخ سوريا أكثر من معتقل وأسوأ بكثير من مجرد سجن .
وسجن صيدنايا أحد أكثر السجون العسكرية تحصينا في عهد نظام حافظ الأسد ، ومن بعده نجله بشار الأسد ، تحرك مسافة 30 كيلو مترا شمالي دمشق في سوريا ، وسوف تجده ، وقد بني عام 1987 فوق تلة صغيرة عند بداية سهل صيدنايا ، وهو يتكون من مبنيين : المبني الأحمر ، وهو القديم وهو مخصص للمعتقلين السياسيين والأمنيين من المعارضين لنظام الأسد ، والمبني الجديد المعروف باسم البناء الأبيض ، وهو مخصص للسجناء الجنائيين من العسكريين ، ويستوعب من بين 10 ألاف و20 ألفا سجين .
ويتبع السجن وزارة الدفاع السورية ، وتديره الشرطة العسكرية ، وعليه ثلاثة مستويات من الحراسة : الجيش ، والشرطة العسكرية ، وشعبة الاستخبارات العسكرية ، وقد اكتسب هذا السجن للأسف سمعة سيئة بسبب استخدام التعذيب والقوة المفرطة ، إثر أعمال شغب قام بها بعض نزلاء السجن عام 2008 ، ومنذ بداية ثورات الربيع العربي في عام 2011 أصبح سجن صيديانا الوجهة النهائية المعارضة لنظام بشار من السلميين ، وأيضا لأفراد عسكريين تم الاشتباه في أنهم معارضين لبشار .
التجربة القاسية تبدأ بنقل المعتقلين عموما إلى هذا السجن بعد قضائهم أشهرا ، بل وحتى سنوات رهن الاحتجاز في أماكن بعيدة ، وكانت عمليات نقل السجناء تحدث في الغالب عقب محاكمات عسكرية سرية ، والبعض منهم يصلون إلى هذا السجن بدون معرفتهم طبيعة التهم الموجهة إليهم ، أو إلى متى سيحتجزون في هذا السجن .
أكثر من 30 ألف معتقلا إما أعدموا أو ماتوا نتيجة التعذيب ، أو نقص الرعاية الطبية أو الجوع بين عامي 2011 و2018 وقد تم وصفه بالمسلخ البشري ، ففي كل أسبوع أو مرتين في ذات الأسبوع يتم إعدام مجموعات تتألف من 20 إلى 50 شخصا في سرية تامة بعد محاكمة عسكرية تستغرق من دقيقة لثلاث دقائق .
ويحتوي سحن صيانايا على مبنيين رئيسيين بالإضافة إلى طوابق تحت الأرض ، ربما تصل طابقين أو ثلاثة ، أما غرفة فيصعب حصرها ، منها غرف معزولة تماما بسبب خطورة السجن وعداء الأسد له ، وفي السجن طوابق محنة بأكواد ، كما يضم شبكة من شاشات المراقبة والتحصينات والأقفال المركزية ، كما تستخدم في تحصينه أحدث التقنيات ؛ إذ تم تصميمه لاستيعاب أعداد كبيرة من السجناء في ظل ظروف قاسية.
فالسجن يمثل مسلخ بشري ، فبحسب شهادات لمعتقلين كتبت لهم النجاة منهم فإنه يتم هنا شنق المعتقلين بشكل دوري أو يوميا ، حيث تقدر منظمة العدل الدولية أن 13 ألف شخصا تم إعدامهم في سجن ناهيا بين عامي 2011 – 2016 حيث تم تنفيذ الإعدام بعد محاكمات سورية لا تستغرق كما قلنا سوى دقائق ودون أي تمثيل قانوني ، يعيش السجناء هنا ظروف احتجاز قاسية في زنازين مكتظة للغاية يعانون فيها قلة الطعام وانعدام التهوية وانتشار الأمراض ، فلا تسألني عن الإنسانية في هذا المكان ، بل ربما حتى الحيوان إن عاشت في ظروف ساكنيه لاستحق القائمون عليها محاكمات لقلة حيوانيتهم وتتنوع أساليب الانتقام من السجناء هنا بين الإجبار على الوقوف لسلعات طوال أو النوم في أوضاع مؤلمة ، إجبارهم على تناول طعام ردئ لا تقبله النفس البشرية وما يتسبب بأمراض سوء التغذية اعتداءات جسدية ونفسية بكل أنواعها تستخدم لكسر إرادة المعتقلين وامتهانهم .
كل ذلك جعل السجن خلال الثورة السورية في 2011 رمزا للرعب في وعي السوريين ، فكثيرون فقدوا أقربائهم داخله دون معرفة مصيرهم ، وآلاف العائلات لم تتلقى أي معلومات عن أبنائهم الذين تم اعتقالهم واقتيادهم إليه ، ليتجلى هنا الإخفاء القسري بأبشع صوره ، حيث الداخل في هذا السجن مفقود ، أما الخارج فهو مولود ، فوفق الذين خرجوا من سجن صيدنايا قالوا أنه مكانا لإبادة البشر حرفيا ، حيث قال أحدهم بعد تجربته فيه ” كنت أتمنى الموت لكل يوم ، لكن الموت لم يكن يأتي بسهولة”
ولكن في نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول : الحمد لله الذي خلص سوريا من نظام بشار ، وما أجمل أن يستعيد الشعب السوري بلده بعد نصف قرنا من أسوأ تعذيب غاشما يشهده التاريخ الحديث ، لكن نظام بشار الفاشي لم يسقط حتى أنهك سوريا شعبا ووطنا تنفيذا لشروط مشغليه ، إلا أن السوريين اليوم يخرجون من تحت رماد سجن صيدنايا كطائر العنقاء ، لقد أظهرت دماء المعذبين والشهداء في هذا السجن الكئيب من المعتقلين والمصابين مدى الظلم الصارخ الذي وقع فيه المعارضين لنظام بشار. واليوم رحل بشار الأسد وسيعود ملايين اللاجئين إلى بيوتهم وتضاعف نفوذ الأتراك في سوريا مستفيدين من رعايتهم الطويلة للاجئين والمعارضة. تركيا تريد سوريا حليفة، مثل العراق لإيران، التي تعتبره امتدادها الجغرافي والاستراتيجي.
د. محمود محمد على
مفكر مصري