د. محمود محمد علي
لماذا الاهتمام بتاريخ الفلسفة ؟ … الجواب على هذا السؤال يمكن أن يكون كما قال د. الطيب بو عزة موجزا بالقول إن نمط التطور الفكري في المجال الفلسفي والدراسات الإنسانية عامة ينتظم بناظم التراكم غير التجاوز ، ولهذا يقول بسكال أحد فلاسفة القرن السابع عشر :” القدماء أكثر شبابا منا” ، على عكس نمط المعرفة العلمية ، حيث تطورها تجاوزي ، ولهذا يقول باشلار محددا تطور نمط المعرفة العلمية بأن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم .
فعندما يأتي مثلا طالب فيزياء في لفظ الفيزياء لا يحدثه عن تاريخ الفيزياء ، وإنما يحدثه عن واقع الفيزياء اليوم ، وكذلك في درس الرياضيات يتحدث عن واقع الرياضيات اليوم ، ونفس الشيء في الطب ، وإذا ما التفت للتاريخ فإن التفاته يكون من باب الوعي بكيفية التطور وكيف كانت النظرة الخاطئة من قبل وتم تصحيحها من بعد .
لهذا يقال بأن باشلار عندما قال أن تاريخ العلم إنما هو تاريخ أخطاء العلم ، فمعناه أن كل فكرة علمية ثبت خطاها يلقيها في سلة التاريخ ، ولا نلقيها في الحاضر ، فلا معنى بأن نقول لطالب الفيزياء ” إن مركز الكون هو الأرض حسب بطليموس” أو ” الشمس حسب كوبرنيقوس” ، أو حسب الفيزياء المعاصرة فإن كلا من بطليموس وكوبرنيقوس خاطئ ، وأنه لا توجد معرفة علمية حتى اليوم بمركز الكون .
هذه الإحالة على الماضي لا تكون في العلم ، ولكن في مجال الفلسفة فإن النمط المتطور الذي يحكمها هو نمط التراكم غير التجاوز ، فهناك مصطلح درسناها في فلسفة العلوم يقال له ” القطيعة الابستمولوجية” ، بمعنى أنه عندما تأتي مرحلة فكرية وعلمية جدية يتم القطع مع مفاهيم ومنهجية المرحلة السابقة ، وفي هذا انتقد الجابري عندما تحدث عن قطيعة ابستمولوجية بين العقل المغربي والعقل المشرقي .
لكن المعرفة في المجال الفلسفي الإنساني نمط تراكمها غير قطعي – تجاوزي ، بمعنى أنه يمكن ان نجد أفلاطون اليوم مجاورا لهيدجر ، ونيتشة مجاورا لأبيقور وأوغسطين مجاورا لأحد الفينومينولوجيين المعاصريين مثل هوسرل ، بمعنى أن تاريخ الفلسفة لا زال حيا داخل المجال الفكري البشري الغربي إلى اليوم ومن ثم لابد من الاطلاع عليه مهما تباعد بتاعد الزمن .
ويحضرني هنا كلام الدكتور فؤاد زكريا حيث يعلن في كتابه آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة فيقول : ينفرد التاريخ الفلسفي بصفاتٍ تميِّزه على نحوٍ قاطع عن تاريخ أي علم آخر؛ ففي حالة أي علم ينبغي النظرُ إلى دراسة التطوُّرات السابقة لهذا العلم على أنها مرحلة ثانوية الأهمية، وربما مرحلة لا قيمةَ لها بالنسبة إلى دراسة هذا العلم ذاته، مثال ذلك أن دارس الكيمياء لا يحتاج إلى دراسة تاريخها، وبالفعل لا يعرف معظم المتخصصين في هذا العلم إلا القليل عن تاريخه، ولا يمنع ذلك من وجودِ مجموعةٍ قليلة تهتم بالأبحاث التاريخية المتعلقة بهذا العلم لذاتها، وهؤلاء يمكن أن يُعَدُّوا مؤرخين أكثرَ مما يُعَدوا كيميائيين، أما بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من علماء الكيمياء وباحثيها، فليست لتاريخ هذا العلم أهميةٌ إلا في أقرب تطوراته وآخرها فحسب، وبقدْرِ ما يكون الإلمام بهذه التطوُّرات الأخيرة أمرًا لا بُدَّ منه للقيام بأبحاثٍ علمية جديدة تبدأ من حيث انتهت هذه التطوُّرات، وتكمل ما تركته ناقصًا، وتَسُدُّ الثغرات التي تتكشف للعالِم في أعمال السابقين عليه والمعاصرين له.
وعلى العكس من ذلك يتسم التطوُّر الفلسفي بسماتٍ مخالفة — وربما مضادة لسمات التطوُّر العلمي — مما يؤدي إلى اتخاذ تاريخ الفلسفة طابعًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن تاريخ العلم؛ فتاريخ الفلسفة كما يقول الدكتور فؤاد زكريا جزءٌ لا يتجزأ من الفلسفة ذاتها، حتى ليمكن القول إنه لا قيامَ للفلسفة بغير تاريخها؛ ذلك لأن الأفكار الفلسفية لا تُعرَض في كثير من الأحيان إلا من خلال عرض تطورها، وهذا العرض ذاته يؤلف فلسفةً بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، وإذن فهناك ارتباطٌ لا ينفصم بين الفلسفة وتاريخها، والدافع الذي يدعونا إلى البحث في تاريخ الفلسفة هو دافع فلسفي أكثرُ منه دافع تاريخي. وليس هدف الباحث في تاريخ الفلسفة هو مجرد إكمال معلوماته العلمية، أو التوسُّع في جانب إضافي ثانوي الأهمية من جوانب بحثه، بل إن هذا الهدف يتصل أوثقَ الاتصال بصميم التفكير الفلسفي، منظورًا إليه في تطوراته الماضية.
وفضلًا عن ذلك، فالأمر في الفلسفة لا يقتصر مطلقًا على بحث تطوراتها الأخيرة أو الأحدث عهدًا، وليس في الفلسفة أي مجال لتفضيل الجديد على القديم لمجرد كونه أقرب زمنيًّا، بل إن المفاضلة الوحيدة المقبولة فيها إنما ترتكز كما يقول كما يقول الدكتور فؤاد زكريا على أساس القوة الكامنة في المذهب الفلسفي ذاته، سواء أكان هذا المذهب قريبًا أم بعيدًا، وسواء أكان ينتمي إلى التاريخ القديم أم الوسيط أم الحديث، وربما رأى بعض دارسي الفلسفة أن تطوراتها القديمة أعمقُ وأخصبُ من تطوراتها المتأخرة، أو هي على الأقل ذات قوة حية متجددة، مهما مرت عليها الأزمان، ومهما ابتعدت عنها في الماضي السحيق، وتلك صفة يستحيل أن يتصف بها التطوُّر القديم لأي علم من العلوم، وقد تجد لها نظيرًا في نظرة البعض إلى تطوُّر الفنون؛ إذ يمجِّدون فنون العصر الكلاسيكي — مثلًا — كما لو كانت هي الفترة التي يستحيل أن يقترب منها مستوى الفن في أي تطوُّر لاحق.
فالتاريخ الفلسفي كله يكوِّن حركةً دائمة التجدُّد، وكثيرًا ما نرى مراحلَ منه تتجدد وتعود إلى الحياة في عصورٍ يبدو أنها منعدمة الصلة تمامًا بالعصر الذي ظهرت فيه أول مرة؛ إذ نجد مذاهبَ كما يقول الدكتور فؤاد زكريا تنتمي إلى صميم العصور الوسطى (كالتوماوية مثلًا) تتجدد في صميم القرن العشرين، على الرغم من الفارق الهائل في السياق الحضاري بين العصرين، ومن طول الفترة الزمنية التي انقضت بين ظهور المذهب الأصلي وبين إحيائه.
من هذا كله ينتج أن تاريخ الفلسفة ليس إلا جمعًا متسلسلًا لكل الآراء الأساسية التي وضعها هؤلاء الأفراد ذوو الشخصية، وأنظارهم إلى العالم، وأحكامهم على الحياة، مع بيان ما زاده كلٌّ من عند نفسه. ويجب ألا يقتصر في تاريخ الفلسفة على شرح نظام الفلسفة والتئام أجزائها بعضها ببعض، بل يجب أن يشمل أيضًا شرح نموها وتدرجها في الرقي.
وواضح أنه كلما ترقى الفكر وتقدم الإنسان واتسعت دائرة المعارف كانت الآراء أغزرَ، هذا إلى أنه قد تعرض قضايا على بساط البحث مرة، ثم تعرض هي بنفسها مرات أخرى، وفي كل مرة تبحث بطريقة جديدة تخالف الطريقة التي بحثت بها من قبل.
ومن حين إلى حين تزيد دائرة العقل الإنساني اتساعًا، فتنهض موضوعات جديدة، وتقرر قضايا جديدة، وتجاب أجوبة جديدة، ويستكشف الخلف حلًّا لمسائلَ مفيدةٍ لم يهتدِ لحلها السلفُ، مع ما لكل عصر من عصور التاريخ من طابع خاص لا يشاركه فيه غيره. وإن نظرة سطحية لتكفي في إقناع القارئ بأن القضايا تزداد تركبًا وتعقيدًا كلما تقدمت المدنية والتهذيب بتقدم العقل البشري.
المراجع :
1- أ. س. رابوبرت: مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين ، مكتبة هنداوي.
2- فؤاد زكريا : آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة، مكتبة هنداوي.
3-قناة الهاديات : لمــاذا ندرس الفلسفـة؟ | د. الطيب بوعزة.. يوتيوب.