لا تسيئ فهمي في جيل الصغار! يا دكتور علي أسعد وطفه


د. محمود محمد علي


في حياة الشعوب كلها ما يشبه الشموع ، وفي حياتها أيضا ما يشبه الكواكب ، وجيل الكبار الذي تحدثت عنه من قبل علي صفحات منبر مركز نقد وتنوير، هو الذي ذلك الجيل الذين دائما ما أصفه بأن كلمتهم التبر ، وبيانهم السحر ، ونطقهم الإلهام، وحديثهم الحكمة ، وخيالهم السمو إلي أفق سماوي ملائكي ، والتحليق في عالم الحس القتان.
جيل الكبار في نظري سعادة الدكتور علي أسعد وطفه : يجودون بالأدب نظماً ونثراً عن طبع طيع ، وسجية سهلة، ورأي سديد ، وعقل راجح ، ولسان صادق لا يكذب ولا يداهن ، وقلب نقي موصول بالله رب العالمين “ولا نزكي علي الله أحدا” ؛ كما أن جيل الكبار قد وهبه الله نور البصيرة ، ورقة إحساس ، وسرعة خاطر ، وألمعية ذهن ، وسعة علم ، وقوة إدراك ، وشدة تمييز، هي أمور توافرت لجيل الكبار فكانوا عباقرة خلاقيين ، يبدعون القول ، ويأسرون اللب ، ويجودون بأطيب الكريم من القول، والرائع من الحديث ..
جيل الكبار – أستاذي المفدي هو جيل عبقري ، يأسر اللب والقلب ، ويحظي بالإعجاب والحب معاً .. جيل جاء أدبه كالظل الوارف ، يستظل به المنكود، ويستريح إليه العاني ، والنغم الحبيب الذي يصغي إليه الشارد ، واللغة المشتركة التي يتنازعها ويفخر بها القريب والبعيد.
ولن أنسي مثلي وقدوتي من جيل الكبار أستاذي الأديب العبقري “عباس محمود العقاد” ، ذلك الرجل الذي لم يتخرج في العلوم والآداب من مدرسة ثانوية ، ولا من مدرسة عالية ، ولكنه وطد نفسه في جلد عجيب علي لغة مدارس الإنجليز وقواعد العربية وآدابها ، وعلي جمع الكتب باللغتين ومطالعتها ، وعلي الكتابة في الجرائد المصرية ، حتي ظهر في آواخر الحرب العالمية الأولي في مظهر كاتب عربي شاب من أنداد طه حسين، وعبد القادر المازني، وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل ، ومن في منزلتهم.
كان في “العقاد” مزايا قلما تجتمع في شخص واحد : منها اطلاعه الواسع علي أمهات تراثنا الأدبي القديم، ومعرفته الحسنة باللغة الإنجليزية ، مما يسر له قراءة مؤلفات الكبار من أدبائها ، وحرصه علي التوفيق بين الثقافة العربية والثقافة الغربية الحديثة دون طغيان الثاني علي الأول ، واتقانه لآلات لغتنا الضادية وفقهها ، وحرصه الشديد علي متابعة الحركة الأدبية في البلاد العربية ، وفي ديار الغرب ، وجلده العجيب علي شراء الكتب العربية ، والإنجليزية، ومطالعتها في موضوعات شتي لغوية ، وأدبية ، واجتماعية ، وفلسفية ، وتاريخية ، وفلسفية، وتاريخية، وجغرافية، وغيرها (1).
فلا غرابة بعد هذا أن يعد من أوسع أدباء العرب ثقافة ، وأن يصدر بضعة دواوين من الشعر الجيد ، وأن تزيد مؤلفاته علي ثمانين كتاباً ، وأن يظل مدة نصف قرن أو أكثر يملأ الصحف ومحطات الإذاعة بمقالاته الماتعة ، وأفكاره النيرة ، ومعلوماته الواسعة في فنون الأدب وتجارب الحياة ، حتي تخرج عليه فيها عدد كبير من الشبان منبثين في جميع الأقطار العربية (2).
ولما كان من سمات كل مجتمع ناضج أن تكون لديه القدرة علي وضع أفراده؛ حيث ينبغي لهم أن يكونوا ، فيستطيع المجتمع الناضج أن يجني ثمار جهودهم فكراً، وعلماً، وفناً، فإن الجيل اللاحق والذي وصفته من قبل بجيل الصغار ، فأنا لا أقصد أن أسيئ إليه ، حيث يحفل تاريخنا المعاصر بأفراد من علماءنا الأفذاذ الذين يتميزون عن سواهم من ذوي العلم والمعارف بالمهارة العجيبة، والعبقرية الخارقة ، وهؤلاء نظروا في تطور العلم، علي أنه ليس دائما متدرجاً، أو تراكمياً نحو الحقيقة، بل قد يمر بثورات بنيوية دورية؛ يسميها “كون” تحول الباراديم، والبراديم هو تحول النموذج الفكرى هو الثورة العلمية حسب توماس كون، إنه ثورة فى النمط العلمى بشكل أدق، حيث أن مفردة البارادايم تعنى “النمط الفكري”. تحدث الثورة العلمية، حسب كون، عندما يواجه العلماء مشاكل لا يمكن حلها حسب النمط السائد عالمياً، ولهذا يجب، لحل هذه المشاكل، تجاوز هذا النمط، بالإضافة إلى تكوين نظرية جديدة. البارادايم، بهذا المعنى، هو ليس النظرية السائدة الحالية، بل هو الرؤية للعالم، والتى تحتوى على هذه النظرية، وكل المعانى المتضمنة داخل هذه الرؤية (3).
ونموذج “كون” فى البارادايم يركز على جهود العلماء الأفراد على عكس أصحاب رؤية المنطق الوضعى، الذين يلخصون العلم بشكل مطلق داخل إطار فلسفى نظري، وهناك أمثلة صارت تعد كلاسيكية للتدليل على “تحول النموذج الفكري” ، والثورة العلمية بالمعنى الذى أراده كون، مثل :”التحول من الرؤية البطلمية “نسبة إلى بطليموس” للكون، إلى رؤية كوبرنيكوس، الانتقال من الرؤية الكهرطيسية لماكسويل إلى نسبية آينشتين، التحول من فيزياء نيوتن إلى نسبية آينشتين” وغيرها (5).
ومعني هذا أنه عندما تحدث ثورة علمية يتم الانتقال من براديم إلي براديم آخر ، ويستلزم هذا الانتقال تغيرات أساسية في المعايير الحاكمة للمشاكل، والتصورات، والتفسيرات، وعندما تحدث التحولات في النماذج، فإن العلماء المعاصرين يرون العالم الخاص بموضوع بحثهم في صورة مغايرة عن الصورة التي رأها جيلهم السابق .
وطالما أن تعاملهم مع هذا العالم لا يكون إلا من خلال ما يرونه ويفعلونه ، فإنه عقب حدوث ثورة علمية يجد العلماء المعاصرين أنفسهم، يستجيبون لعالم مغاير للعالم الذي تربي في ظله الجيل السابق ؛ ففي أوقات الثورات وعندما تتغير تقاليد البراديم السابق، لا بد أن يتدرب الباحث العلمي في الجيل اللاحق من جديد علي رؤية العالم من حوله ، وبرغم أن العالم من حوله لا يتغير بتغير البراديم ، إلا أن الباحث العلمي المعاصر يصر إصرار من لا يخشي اليأس علي العمل بعد ذلك في عالم مغاير ، وهنا يدخل في ثورة علمية من حيث لا يدري (6).
وبعد حدوث ثورة علمية سرعان ما يكتشف العلماء المعاصرين أنفسهم، أنهم إزاء قياسات معالجات قديمة غير ملائمة ، ولا بد من أن تستبدل بغيرها فوراً ، فالباحث العلمي المعاصر أضحي لا يطبق علي الأوكسجين جميع الاختبارات نفسها التي سبق تطبيقها علي الهواء الخالي من الفلوجستون (7).
إن التحول إلي البراديم الجديد هو انتقال مفاجئ لطريقة جديدة لرؤية العالم ، وهو ما يطلق عليه توماس كون التحول الجشطالتي؛ ويستخدم التحول الجشطالتي باعتباره أمثلة نموذجية، يمكن إدراكها بطرق مختلفة تماما بدون أن تتغير ، وبدون أن يكون هناك تغير في العلاقة الفيزيائية للمدرك لهم (8).
وبذلك فإنه لا يمكن مقارنة البراديم القديم بالبراديم الجديد، فكلاهما يواجه مشاكل مختلفة، ولا يكافئ الآخر، كما أن الانتقال إلي براديم جديد يتضمن تغييرات أساسية في معاني كل من الحدود العملية، سواء كانت واقعية أو نظرية؛ ومن ثم تصبح معاني الحدود المستخدمة في تقاليد براديم مختلفة غير متكافئة فعليا .
وإذا كانت المتناقضات هي النقطة الحاسمة بين نظريتين لأن براديم يحلها وآخر لا يمكنه حلها، ومن ثم فمن الطبيعي أن لا يحل براديم ( سابق ولاحق) نفس المشاكل لكونهما يتناولان معطيات تجريبية مختلفة ، فينشأ عدم التكافؤ من اختلاف البراديم السابق عن البراديم اللاحق بشأن معايير التقييم لنوع المشاكل الجديرة بالحل ، وذلك لأن هناك معايير مختلفة لتقييم ما يمكن اعتباره مشاكل عامة هامة يراد حلها ، ولما يُعد كحل مقبول.
إذن يمكن القول بأن البراديم المختلفة تكون غير متكافئة ، وذلك لكونها تتضمن البراديم المختلفة ( وإن كانت بنفس الصوت)، ولا تدرك البراديم نفس الملاحظة، ولا تحل نفس المشاكل، ولا تتفق علي ما يمكن أن يعد باعتباره تفسيراً ملائماً، وبناءً علي ذلك فإن استبدال براديم بآخر لا يعد تراكما، بل مجرد تغيير، وهو تغيير غير متكافئ، فلا يمكن الحكم علي البراديم القديم بالبراديم الجديد، وذلك لقدرتهما علي حل نفس المشاكل ، أو تناول نفس الوقائع ، أو مجابهة نفس المعايير، حيث يؤدي القول بعدم التكافؤ إلي القوم بنسبية المعرفة العملية، لأن التغير في البراديم هو تغير في وجهة النظر.
ما أريد أن أتوصل إليه أستاذي الدكتور وطفه من كل ما سبق، أنني عندما قدحت في جيل الصغار من العلماء والأدباء والباحثين في جامعاتنا العربية ، فذلك لكوني رأيت منهم من لا يبحث، ولا يقرأ، وكل معلوماته نقلية من الانترنت ؛ وعندما أحس هذا الجيل بضآلته إزاء جيل الكبار، قرر أن يتفوق عليه بالتمسك بالثورة العلمية ، والتي ضربت نموذجا لها من خلال نظرية العلم عند توماس كون.
وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة أستاذ د. وطفه ، أود أن أشير إليها ها هنا ، ألا وهي طبيعة المجتمع المعاصر ، تلك الطبيعة التي أجبرت العلماء والمفكرين الآن أن يلبوا حاجات عصرهم المتلاحقة (رغما عنهم)، وذلك استناداً لظاهرة ما يمكن أن أسميه “النظرة الخارجية للعلم” – أعنى العوامل الاجتماعية، خاصة وأن العلم كما يذكر أستاذنا الدكتور” فؤاد زكريا” :” ليس ظاهرة منفردة تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة ، وتخضع لمنطقها الداخلي البحت ، بل إن تفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا ينكرها أحد ، فحتى أشد مؤرخي العلم ميلاً إلى التفسير الفردي أو الداخلي لتطور لا يستطيعون أن ينكروا وجود تأثير متبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذى ظهر فيه، حتى ليكاد يصبح القول بأن كل مجتمع ينال من العلم بقدر ما يريد (9).
وتاريخ العلم يقدم أمثلة كثيرة تثبت أن المجتمع حدد بقدر معقول من الدقة نوع العلم الذى يحتاج إليه، وهذا لا يتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالم ودوره الأساسي فى الكشف العلمي، فلا أحد يزعم أن العالم مجرد أداة يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته ، وأن الكشوف العلمية يمكن أن تتم على أيدي أناس ممن تتوافر لديهم عبقرية كبيرة ، ما دامت تظهر في المجتمع المناسب ، بل إن هذه أحكام باطلة تبخس العالم حقه ، وتصوره كما لو كان وسيلة في أيدى قوة غيبية تتحكم فيه تحكما تاما ، حتى لو كان المرء يطلق على هذه القوة الغيبية اسما يبدو في ظاهره علميا وهو حاجة المجتمع (10).
وحقيقة الأمر، هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافر العاملين معا – حاجة اجتماعية وعبقرية ذهنية، وكل ما في الأمر أنه عندما تتوافر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية . ذلك لأن أفراد البشرية الذين يعدون بالملايين لا يخلون في كل عصر من عباقرة. ولكن من المهم أن يأتي العبقري في وقته وفى أوانه، وأن يلبى حاجات عصره … وللحديث بقية في موضوعات أخري..
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جماعة أسيوط
………..-
1- مصطفي الشهاب : الأديب العبقري عباس محمود العقاد ( 1889- 1964م) مجلة المجمع العلمي العربي، المجلد 39، الجزء الثاني ، 1964م، ص 343.
2-نفس المرجع، ص 345.
3- أحمد منصور : ما الباراديم الذى كان يدعو له المفكر الأمريكى توماس كون؟ ، مقال منشور باليوم السابع – السبت، 18 يوليه 2020 04:30 م.
4- نفس المرجع.
5- نفس المرجع .
6-د. سهام محمود النويهي : توماس كون ونسبية المعرفة العلمية، فكر وإيداع ، رابطة الأدب الحديث ، المجلد 16، 2002، ص 51.
7- نفس المرجع ، ص 53.
8- نفس المرجع ، ص 53.
9- نفس المرجع ، 55.
10- د. فؤاد زكريا : التفكير العلمي ، سلسلة عالم المعرفة ، العدد رقم (3) ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، مارس ، 1987م ، ص 163.
11- نفس المرجع ، ص 164.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.