د. محمود محمد علي
يعد هشام غصيب واحدا من أساتذة الفلسفة المحترمين الذين أجلهم وأقدرهم ، فهو واحد من المفكرين اليساريين الذين دخلوا مضمار التفلسف من خلال العلم ، قال عنه الدكتور محمد خالد الشياب بأنه من القلائل جدا في الأردن ، الذين ينطبق عليهم وصف المثقف – هذا الوصف الذي اختلط على كثير من الناس في زمن السقوط والغزغزة ومزدول التكرار وبهرجة الإعلام . ميزة هشام غصيب ، العالم والمفكر اليساري ، المنحاز للفقراء أنه لم يخرج من رحم الأحزاب السياسية ، وإنما من المعاناة الفكرية والثقافية ، حين أهتز وعيه أمام صدمتين : الأولي : وطنية عامة ، وهي هزيمة العرب عام 1967م ، والثانية : شخصية ثقافية ، حين اهتز عالمه الديني والقومي والشخصي ، فشعر بفراغ فملأه بالفلسفة والفكر السياسي ، إلى أن وجد ضالته في منظمة فكرية عنوانها هيجل وماركس ، ففتح هذا التراث أفاقا جديدة لديه ، ليس فكريا وحسب ، وإنما وجدانيا وحياتيا أيضا . ومن هنا كانت انطلاق هشام غصيب كمفكر ماركسي غير تقليدي “.
ولهشام غصيب مؤلفات متعددة مذكر منها : مسرحية غسق الآلهة (1976م)، والنظرية الذرية (1983م)، ومدخل مبسط إلى منطق نظرية النسبية الخاصة (1983م)، وأصول الميكانيكا الموجية (1984م)، وجولات في الفكر العلمي (1985م)، والمغزى الحضاري التاريخي للعلم (1986م)، ودراسات في تاريخية العلم (1992م)، وجدل الوعي العلمي (1992م)، وفلسفة التحرر القومي (1992م)، وثقافتنا في ضوء تبعيتنا (1993م)، وهل هناك عقل عربي (1993م)، وتجديد العقل النهضوي (2003م)، وتجديد العقل الجدلي (2003م)، وفلسفة كارل ماركس (2007م)، والعقل أولًا.. العقل لا نهائيًّا (2016م)، والعقل والمنهج في الثورة العلمية الكبرى (2018م).
والسؤال الآن : كيف فهم هشام غصيب الماركسية في ضوء التراث الماركسي وفي ضوء تجاربه وفي ضوء التزامه بثلاثة عناصر : العلم ، والاشتراكية ، والتحرر الوطني؟
وهنا يعلن هشام غصيب أن كثير من الدارسين لماركس والماركسية ينطلقون من جهل ومريع ، وذلك لأنهم لا يعرفون شيئا لا عن تاريخ التراث الماركسي ، ولا عن كتابات ومقالات ماركس المنشورة وغير المنشورة ، فكيف يصدرون أحكاما على ماركس ، مع العلم أن تلك الأحكام هي أحكام جاهزة صنعتها المخابرات الأمريكية وأذنابها وبثبتها في العالم بأبواقها ، ولهذا فإن هؤلاء الدارسين لا يعرفون عن الماركسية وماركس مجرد جزء صغير.
ولهذا يري هشام غصيب أن كل من لامس التراث الماركسي حقا أدرك جيدا أنه لا غني عنه ، ولهذا إذا أردنا أن نعرف فهم هشام غصيب للماركسية ، فهذا الفهم جاء من خلال التفكير في التراث النظري الماركسي ، ومن خلال المعاناة سواء معاناتنا القومية والوطنية والطبقية ، ندرك أن الماركسية تنطوي على تفلسف ، ولكنها تختزل إلى تفلسف ، ونفس الشيء فإن الماركسية عند هشام غصيب ليست مجرد علم ولكنها تختزل على علم ، كذلك الماركسية لا تمثل فقط أيديولوجيا ولكنها تنطوي على أيديولوجيا ، كذلك الماركسية ليست ممارسة حزبية ولكنها تختزل إلى ممارسة حزبية .
ثم يحدد ولكنها تختزل تعريفه للماركسية بأنها مشروع تاريخي ثوري يهدف إلى قلب العالم رأسا على عقب وذلك مت تخطي المجتمعات الطبقية كلها إلى المجتمع اللاطبقي والذي تسود فيه المساواة والرفاهية والعدالة ، وهذا المشروع ليس مجرد فكرة طوباوية نبتت هنا وهناك ، ولكنه في الواقع مشروع تحمله قوة اجتماعية ، وهذه القوة الاجتماعية هي الطبقة العاملة الصناعية أو الطبقة العاملة الحديثة والتي خرجت من رحم الحداثة والثورة الصناعية.
وهنا يميز ولكنها تختزل بين الطبقة العاملة القديمة والحديثة ، حيث يري أن الطبقة العاملة القديمة كانت عبئا على المجتمع ، أما الطبقة العاملة الحديثة فالمجتمع عبئا عليها ، ومن ثم فالماركسية تفهم كما يري تمثل الطبقة العاملة الحديثة ، فهي التي تحمل هذا المشروع الماركسي الذي يراه غصيب ، وهذا المشروع ليس معلقا في الهواء وإنما جوهر هذا المشروع يتجسد في العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة ، وهذه العلاقة علاقة ضرورية وتحولية وتناقضية ، بمعنى أن النظرية تتحول باستمرار ، والممارسة تتحول باستمرار إلى نظرية ، وهناك دائما توتر بين النظرية والممارسة ، ولهذا فالماركسية تنتفي من دون الجمع بين النظرية والممارسة ، ومن ثم فالعلاقة بينهما ضرورية جدا.
وعندما يقول هشام غصيب بأن بالنظرية فو يقصد بالنظرية ثلاثة أبعاد لتلك النظرية وهي : الفلسفة حيث للماركسية فلسفتها ويسميها ” المادية الجدلية” ، ثم العلم حيث يوجد هناك نظرية علمية للماركسية في التاريخ ، وهي نظرية تختلف عن النظريات الأخرى في التاريخ والتي تسمى” المادية التاريخية” ، ثم الأيديولوجيا ، حيث ندرس من خلالها الماركسية التي تتطور حسب الصراعات الاجتماعية وحسب الصراعات الطبقية .
ولكن لدي هشام غصيب من جهة أخرى الممارسة الماركسية كما تتمظهر في الأحزاب الماركسية ، والنقابات ، والتجمعات العمالية والتقدمية ، وفي نظر غصيب أنه لا يمكن أن توجد أي منظومة فكرية ترتبط بالممارسة بهذه الكيفية ،فإذا استعرضنا كل المنظمات الفكرية علي حسب قول غصيب نجد أن الماركسية تتميز في هذا التلازم الضروري بين النظرية والممارسة ، ولا يجدها في أي منظومة فكرية أخرى .
وكل ما تحدث عنه غصيب يفترض نظرية ماركس للتاريخ ، ويفترض كذلك تصورا معينا للإنسان ، حيث يؤمن غصيب بأن الماركسية تقترض تصورا معينا للإنسان وهي أنها تنظر للإنسان ليس على أنه مجرد كومة من الذرات النفسية التي تدخل في تفاعلات غرضية مع بعضها ، وهذا ما ينظر إليه الفكر البرجوازي علي حسب تعبير غصيب للإنسان وهو لا يعترف للإنسان بوصفه يمثل المجتمع.
أما الماركسية فترى كما يري غصيب فنجد أن الإنسان هو مجتمع أي هو مجمل العلائق الاجتماعية ، ومن ثم الإنسان في نظر غصيب يمثل بنية وعلائق أو تشكيلة اجتماعية موضوعية موروثة في الواقع، ومن ثم تأتي نتيجة تطورات تاريخية وذلك لكونها تنظر للإنسان بوصفه كائن طبيعي ينتمي إلى الطبيعة وهو جزء لا يتجزأ من الطبيعة ، ولكن ليس فقط الإنسان يمثل قوة طبيعية ، ولكنه كائن متميز بميزة القدرة على تغيير بيئته، ولهذا يقول غضيب إن الإنسان يعيش بتغيير الطبيعة وذلك بفضل قواه الانتاجية .
ونختم حديثنا بما قاله غصيب : تجربتي الفلسفية عبر السنوات دلتني على أن الماركسية هي موقف من الحياة مطابق للحياة في تاريخيتها. إنها مخطط للفعل التاريخي لا غنى عنه في حقبة الحداثة وما بعد الحداثة. وهذا المخطط هو فضاء من المسارات والاحتمالات، وليس مسارًا أحاديًّا تحدد أبديًّا عام 1917م (عام الثورة الشيوعية في روسيا). وبالطبع، فإنها مسألة فلسفية في غاية الأهمية والتعقيد، وتحتاج إلى كثير من الجدل والتوضيح.. لقد وصلت إلى الماركسية بوصفها فلسفة ملائمة وكانت لي مخرجًا من الحلقة المفرغة للعدمية المطلقة، وليس من خلال الأدبيات السوفييتية أو الأحزاب الشيوعية التقليدية، ولذلك فإن الأحداث التي رافقت التجارب والتطبيقات الاشتراكية أو التي أدت إلى إلغاء المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي لم تغير في اتجاهاتي الفكرية، كما حدث لعدد كبير من المفكرين والمثقفين الماركسيين؛ ذلك أني لم أصل إلى الماركسية عبر الاشتراكية القائمة بالفعل (الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية والأحزاب الشيوعية) لكني اكتشفتُها اكتشافًا، ولم أعتنقها تلبيةً لحاجات ومصالح وعلاقات غير عقلية، ولأن اكتشافها جاء إنقاذًا لي وحلًّا لمأزق فكريّ روحيّ. وفي ذلك فإنني أميز بين الماركسية بصفتها منهجًا جدليًّا إنسانويًّا، وأيديولوجيا السلطة السوفييتيـة.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط
المراجع
1-د. محمد خالد الشياب : هشام غصيب .. المثقف الماركسي القومي ، الرأي ، مقال منشور بتاريخ الثاني من نوفمبر لعام 2007.
2- لماذا الماركسية د. هشام غصيب.. يوتيوب.