صراع القيم بين ظاهرتي العُريّ والتعري


د. محمود محمد علي


يعد صراع القيم من الموضوعات الشائكة التي شغَلت بال المفكرين، والباحثين منذ زمن بعيد وإلى اليوم، نظراً لأن القيم تشكل عنصراً أساسياً ومكوناً رئيسياً لثقافات الشعوب، ومن ثم فهي تشكل سلوك الأفراد داخل المجتمع على كافة المستويات والمجالات. ولأن القيم نفسها ذات أدوار هامة في نحت التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وفي التطور السياسي، والجمالي للمجتمع، فهي كما يقول ماكس فيبر: التعبير عن مبادئ عامة وتوجهات أساسية، بل اعتقادات جماعية ذات أبعاد دينية وسياسية واقتصادية.
وإذا كانت أزمة القيم الضاربة في عمق الحياة العامة بجميع مجالاتها، مما يكاد يجمع عليه كل المتتبعين من الاجتماعيين والاقتصاديين وحتى السياسيين، وأنها أصبحت ظاهرة طالت انعكاساتها كل الناس ومن مختلف الأعمار وفي مقدمتهم الشباب؛ فإننا لا نستغرب أن يفشو في أوساطهم الإدبار عن قيمهم الأصيلة التي تعمل على تثبيت شخصيتهم وترسيخ مقومات هويتهم، والإقبال المنقطع النظير على تمثل القيم الساقطة في السلوك، سواء كانت محلية أو وافدة.
ومن تلك القيم الساقطة مذهب العري أو التعري Naturism‏ وهو حسب موسوعة ويكبيديا يمثل حركة ثقافية وفلسفية تدافع عن ممارسة الحياة بدون ملابس، حيث تبرر ذلك بضرورة حصول الجسم على منافع بدنية كوصول أشعة الشمس والهواء النقي، كما تدعي الحركة أنها تصحح الوضع الطبيعي للإنسان وتبرز وتعزز ثقتهم وإعجابهم بأنفسهم ، ولكن منتقدي الحركة هاجموها واتّهموها بنشر الفحش ، وقد انطلقت الفكرة من ألمانيا حيث كان الألماني ريشارد أونوجويتر أول من نادى بمذهب التعري حيث ألّف كتاب أسماه التعري عام 1906 ولكن الفكرة لاقت معارضة ومنعت من قبل النازية ، ثم انتشرت إلى المملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة. – الفلسفة – ينبع مذهب التعري عن مصادر فلسفية عدة ويعني أمورًا مختلفة وفقًا للاعتقادات والآراء الشخصية لكل فرد ، حيث لا يوجد تعريف موحد للمذهب، ولكن عرفه الاتحاد الدولي الطبيعاني (INF) عام 1974 على أنه: “نمط حياة في انسجام مع الطبيعة يتميز بممارسة التعري الاجتماعي بنية التشجيع على احترام الذات واحترام الآخرين ومن أجل البيئة”.
ولكن للأسف عندما تُقتل الحشمة في بلادنا ، وتضيع بين أزقة شوارعنا العتيقة ، فتتلاشى آخر معالم حضارتنا التي اتسمت عبر العصور بالنزاهة والشرف ، والحياء ، يصبح الُعريِ تطورا ، وخلع الملابس دليلا على التحضر ، فكما كان الفرنسيون يباهون بعضهم بعد زيارة الأندلس وبغداد بلباسهم العربي ، ونطقهم لكلمة ” حبيبي” دلالة على التقدم الحضاري ، أصبح فتياتنا يتبارزن على منصات التوك توك والشوسيال ميديا ، بعرض ما لذا وطاب من الأجسام كقطع اللحم النيئ عند الجزار، ويتنافسن : من منهن ذات أرداف أكبر وخلفية ثقافية أنضج ، وإذا اعترض أحدهم ، رموه باستعلاء وعجرفة ، بعبارة كادت أن تتناثر بذائتها .
فحين تضيق سمات الحياة بين بعضها ، فيصبح الحي كالميت ، ويُحول الأموات أحياء ، ويدخل الجمل في سمّ الخياط ، وتتماهى المفاهيم ، وتختلط الأوراق ، ويصبح الأبيض أسود ، والمر مالحا ، ويطغى على المرء العجب ؛ هنا أقول لا يجب أن نظل في الظلام مختبئين ، فلابد أن نرفع لبوس التردي الذي خنق مجتمعاتنا ، ونستقصي بأسباب تفشي أوبئة الفكر في عصرنا الحديث .
ولعل قائلا يقول : إن التعري لم يكن حكرا على الحضارة الغربية المعاصرة ، فهو وريث كل الحضارات السابقة ، شرقية أم غربية ، ألم نرى المنحوتات في أثينا وفي روما ؟ ، وماذا عن لوحات عصر النهضة وأوساط أوروبا .
ففي منتصف الستينيات ازدادت أعداد ممارسي تلك الثقافة بشكل كبير جداً، خاصة بعد أن ساعد الإعلام بنشر مواضيع دعائية لشاطئ العراة في جزيرة زولت. ومما ساعد أيضاً على زيادة العدد كانت حركات تحرر المجتمع التي رافقت عام 1968، فباتت ثقافة التعري رمزاً لهذا التحرر. ويقدر عدد الألمان ممارسي هذه الثقافة في الإجازات بنحو 800 ألف مصطاف. وفي العقود الأخيرة بدأ مفهوم التعري في ألمانيا يأخذ بعداً سياسياً، فقد ظهرت مجموعات اتخذت من تعري الجسد رمزاً للاعتراض على حدث أو قانون ما، كما يحدث في بعض المظاهرات أحياناً.
إننا نعيش ثقافة مكشوفة لدرجة جعلتنا مكتوفي الأيدي أمام كل منظر في كل مرة، فنحن في الدرب لنصبح، أو بالأحرى أصبحنا، منيعين تجاه ما كان يعتبر في السابق صادماً أو مقرفاً أو مهولاً، فمن المذهل كيف تنقلت “ليدي غاغا” من الشذوذ إلى العري، أليس كذلك؟ مثلما فعل صوت مادونا متوسط العمر في الماضي عندما أثارت الضجة حول الصدريات البارز، والتي يمكن أن نرى في لباسها تزمتاً مقارنة بنجوم اليوم ، فنلقي نظرة على تصرفات هؤلاء النجوم: الظهور دون لباس داخلي، عمليات الولادة على شاشات التلفزيون، التموضع دون ملابس لالتقاط صور تنشر على المجلات الشهيرة.
وهنا نقول مع د. مأمون علواني إن التعري بالفعل ليس حالة طارئة على أوساطنا المجتمعية وليس حالة ثورية مفاجئة قد عهدته البشرية منذ أزلها ، ولكن ما يختلف في عصرنا هذا عن سابقاته من العصور هو التحضر المرفق قسرا به ، فإذا ألقيت نظرة على الحضارات القديمة سترى أن أنظمة تلك البلاد كانت لا تمانع من شيوع أنماط هكذا من اللباس ، بل كانت على العكس تحمي أفرادها وتضمن لهم الحقوق ، وتُشرع لهم الواجبات ، ولكن كانت تجر فتيات الطبقة العليا في المجتمع : الطبقة الحاكمة أو البرجوازية أو الدينية من ارتداء لباس الجواري والإماء والنساء البغايا ، وعلي العكس أيضا كانت القوانين حينها تنزل أشد العقوبات إن قامت احدي نساء العبيد أو العائلات في سلك الدعارة أن يرتدين لباس المرأة الحرة ، فإن ذلك يعد إخلالا بتوازن المجتمع وتمردا على قوانينه ؛ وبمعني آخر لقد العري منتشر في الدول ولكن كان مقتصرا على من هم دون القيمة الاجتماعية المتعارف عليها ، وكان يعد سمة من سمات الصعلكة والوضاعة ، ويرمز على قيمة أصحابها المتدنية ، والذين عادة لا يملكون حرية أنفسهم ، ويمكننا الاستشهاد على ذلك بحضارات عدة كالإغريق والرومان ومصر القديمة وسومر ، وصولا إلى شبه الجزيرة العربية .
وهذا ما كان شائعا في الجاهلية من أصحاب الرايات الحمر عند العرب من البغايا ، وكان يفاخر العرب أنفسهم بالأنساب تبعا لصفاء سلالتهم القبلية وشرفها وخلوها من المعابة والدنس ، كالأشراف والسادة الأحرار وتلك السمات الاجتماعية التي تقرن أصحابها بالعلو والمكانة العظيمة بينهم والذي كان مدعاة للفخر بينهم ، ويمكننا رؤية هذا في أشعارهم القديمة أثناء الجاهلية أو بعدها.
ولهذا أقول مع د. مأمون علواني “بدلا من أن تنهك في السيطرة على كل القطعان في حظيرتك ، اجعلهم جمعيا قطيعا” ، وهذه تختصر جل أزماتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية ، فإن اطلاق مفهوم ثقافي واحد هو تسليط على المجتمعات البشرية بإكراه وفظاظة ، يعد الطابع الأجلى لسياسة الغرب تجاه شعوب الأرض ، مما حمل معهم منظورا اجتماعيا واحدا ، أصبح من الواضح أداة لوحشية الغرب الدكتاتورية في فرضه على المجتمعات كافة وقولبتها بشكل قسري واعتباطي بما يوائم عبر تغذيته بشتى أشكال الإعلام وأنواع الدراما والمسلسلات ، وصولا إلى عالم السينما الذي أنتج مزيجا غير متجانس من التيارات الاجتماعية المتضاربة في بلاد العالم الثالث ، ليضفي صراعا من نوع خفيف ، ضمن أزقة المجتمع الواحد.
فبين مؤيد أعمى للغرب لكل توجهاته ، ومحافظ متعنت للتراث ، فيظهر لنا نوع جديد من القطبية الثقافية والاجتماعية ، التي تزداد تطرفا ، يوما بعد يوم في أوساط مجتمعاتنا ، وهذا ما سيؤول في نهاية المطاف إلى تهتك البنى الواصل بيننا ، وضياع مفهوم الاعتدال الرابط بين أواصر ثقافتنا لينهار مجتمعنا من تلقاء نفسه ، وتتلاشى هويتنا الثقافية ، ليتكون تحدي كبير يعد من أخطر التحديات التي نواجهها في عصرنا اليوم.
ولهذا من الصعب أن تسيطر على شخص يحمل تاريخه على كتفيه ، لأنك ستضطر لمحاربة هذا التاريخ بأكمله من خلاله .. جرده من أصالته .. وفكك روابطه الاجتماعية .. وحاربه منفردا .. لأن الروابط الاجتماعية تعد في حقيقتها أساس تكون القطيع وهيكلته ، ومن بقايا حاجته الغرائزية من أجل البقاء التي ورثها عن أسلافنا البشر عندما كانوا منعزلين في الغابات ، مفتقرين لأدنى سبل النجاة ، حينها تجمعوا حول بعضهم في حيز جغرافي صغير واتفقوا على عدة صيغ صوتية ترمز إلى أشياء محددة ، فأبدعوا في تلك اللغة ، وصاغوا الحكايات والقصص التي تحاكي تجربتهم المتميزة ، وأسقطوها على منظورهم الروحي ، والسلوكيات الضابطة لهم ، والمتعارف عليها عندهم ، فشكلوا مع انصهار تلك العوامل في قارب واحد ما يسمى بالهوية الثقافية ، ليعبر الزمان بهم ، فتظهر بزوغ تلك المرحلة ، وتفرع لنا أبهى أشكال الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ ، وبعد مئات السنين ، تطورت المجتمعات الإنسانية وأخذت تتمايز فيما بينها على أسس الثقافة والإبداع والدين والذي كان لكل منها طابع خاص في التعبير عنه. ولذلك نرى هذا الزخم الإبداعي الهائل من آثار الحضارات الماضية عبر التاريخ ، وكان لاجتماع هذه العناصر مسمى واحد ، يسمى بـ” الهوية” ،.
والهوية هي سجل الفرد أصالته ، وهي مخطوطة التاريخ التي تخبرنا بتاريخ أجدادنا وعاداتهم ، وقصصهم ، وحتى مفهومهم ونظرتهم إلى الحياة ، ولكن كيف صارت هويتنا الآن في ظل هذا الواقع المازوم؟
يقول د. مأمون : لطالما ارتبط مفهوم الانحلال الأخلاقي بعلامات أفول شمس الحضارة ، فلا يمكن لحضارة أن تحيا وشعبها مارق بلا ضوابط ، إلا في عصرنا هذا ، فقد انقلبت المفاهيم ، وأضحي الانحلال معلما للرفعة ، يقول “وانج يانج” المنظر الصيني : إن الغرب قد أضحى عرضه لانهيار حضاري سريع ، وذلك لابتعاده عن ان المفاهيم الأخلاقية ، وجموحه للإلحاد ورفض الدين ، عوضا عن تفسخه الاجتماعي ، فأمان المجتمع وتماسكه ، أساس أمان الحضارة ، وللعلم فأن يانج قد احدث تغييرا مهما في سياسة الحكومة الصينية ، فقد بادرت تحت توصياته بالاهتمام بالدين وإحياء الثقافة الدينية الصينية من جديد ، ومن ثم أصبحت الصين اليوم تسير بخطى ثابتة نحو التقليدانية ، أي إحياء التقاليد لمواجهة التغريب الثقافي الذي اجتاحها بغية الحفاظ على مجتمعها .
Seen by 3
Like
Comment
Send

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.