د. محمود محمد علي
ولو رجعنا بذاكرتنا إلى السنتين السابقتين لتبين لنا ان ترامب كان في أدنى مستوياته من شعبيته ، حيث كان أداء الجمهوري في التجديد النصفي للكونجرس كان صعيفا جدا ، وعدد من أهم أنصاره خسروا في دوائرهم ، والحزب الجمهوري فقد الأغلبية في مجلس الشيوخ ؛ بل لقد كات ترامب ضعيفا إلى الدرجة التي أدت بظهور مجموعة كبيرة من المنافسين له على ترشيح الحزب الجمهوري × ظهر له منافسون من داخل حزبه نفسه ، وهذه كانت واحدة من أخطر التحديات ، وهو أن حزيك يكون منقسما من داخله عليك .
بيد أن حظه أن هناك شخصا ما من المعسكر الآخر قد قرر أن يلاحقه قانونيا ، فقد كانت مطارات المحاكم له والدعاوى الجنائية والتي قدر فعت ضده في ربيع وصيف 2023 أدى كل ذلك إلى توحد الحزب الجمهوري حوله ، وذلك لأنه ببساطه ظهر ترامب على أنه مستهدف.
علاوة على أن فوز ترامب الأول على هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 كان مفاجئا وكان صادما ، فهو فوز لم يكن أحد يتوقعه كما قلنا من ذي قبل ؛ والحق هنا هذه المرة ليس مفاجئا ،فلقد كانت كل المؤشرات تقولبأن كاملا هاريس في ظريقها للخسارة لأسباب عديدة .
وأول بينة في ذلك ، هو ان الجزب الديمقراطي لم يمنعها الوقت الكافي للإعلان عن نفسها ، وذلك لأنه كان يوجد إصرار لفترة طويلة على ترشيح جوبايدن وهذا رجل ميت إكلينكيا ، ولو دخل في منافسة مع أي أحد فسينتصر وبجدارة ، علاوة على وجود حالة من الثقة المبالغ فيها في حملة هاريس في ستكسب الانتخابات ولذلك لوكنها إمرأة ذات أصول ملونة ، ويبدو أن الحزب الديمقراطي متجاهلا أن ترامب نفسه قد فاز في المرة الأولى على هيلاري كلينتون وتناسي أن لون بشرة المرشح ليس كافيا بالفوز حتى بأصوات الملونين .
وبناء على هذه الثقة الكاذبة قادت كمالا هاريس واحدة من أسوأ الحملات في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية كلها ، فهي لم تفعل أي شيء يذكر سوى كونها تقدم نفسها على أنها نقيض ترامب ؛ علاوة على أن لديها نقطة ضعف قاتلة وهي كونها نائبة الرئيس بايدن والتي حدثت في عهدة واحدة من أسوأ موجات التضخم في حياة الشعب الأمريكي ؛ أي أن هاريس تمثل جزء من الأزمة الاقتصادية والتي يعيشها الناخبين ، ونفس نقطة الضعف هذه ، هي نقطة القوة الرئيسية لترامب .
لقد قدم ترامب أداء اقتصادي جيد خلال فترته الأولى ، وعندما خسر ترك الاثتصاد لبايدن وهاريس وحدث ما حدث من التضخم ، ومن ثم يعد ترامب أنسب شخص في أن يحاسبهم على الأداء الاقتصادي .
خلاصة القول كاملا هاريس خسرت الانتخابات بجدارة وستذهب طي النسيان ، والذي يتواجد معنا الان هو ترامب ووعوده الانتخابية الحادة والمتمثلة في كونه قد وعد بترحيل المهاجرين غير الشرعيين من الولايات المتحدة حتى لو اضطر لاستخدام الجيش الأمريكي في تحقيق هذا الترحيل ، ووعدوه في فرض تعريفه جمركية بنسبة 20 % على كل البضائع المستوردة ، وهذا القرار إذا كانيحمى الصناعات المحلية الأمريكية فهو أيصا يرفع أسعار السلع المستوردة على المستهلكين الأمريكيين في الداخل ، وكذلك وعوده في إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية في يوم واحد ، والمؤكد أن أي تسوية سريعة للحرب في أوكرانيا ستكون بلا شك تسوية لصالح روسيا وبالأخص زعميها فلاديمير بوتن ، وهذا الأمر يفتح باب الخوف والهلع في أوربا .
إن أوروبا تعيش الآن في حالة رعب من عودة ترماب أكثر من أي أحد ، بل أكثر من الصين ، وذلك لكونه لايبدي أي احترام لالتزامات الولايات المتحدة الأمنية تجاه حلف شمال الأطلسي ، وقد قالها مرارا وتكرار ” أمريكا أولا” ، وهذا معناه أنه لا ينوى تقديم خدمات الأمن لأوروبا مجانا وأنه ينتوي أن يأخذ منهم ثمن هذا الأمن ماديا .
نعم لقد وعد ترامب بتقوية الجيش الأمريكي ، ولكن هذا الوعد كان لصالح الولايات المتحدة ، وهو لا يعتبر الجيش الأمريكي ولا الولايات المتحدة مؤسسة خيرية بحيث تقدم الأمن لأوربا مجانا كما فعلت مجانا على مدار القرن المنصرم كله.
كذلك لا ننسى كذلك رعب خصومه السياسيين في الداخل لأنه قد صراحة بالانتقام منهم وأطلق عليهم مسمى ” أعداء الداخل” ؛ ولذلك على القارئ ألا ينسى أن رجوع ترامب هذه المرة للحكم بظهير تشريعي أكثر من 2016 حيث أنه راجع هذه المرة بأغلبية جمهورية قوية في الكونجرس أي أنه سيتمكن هذه المرة من أن يمرر التشريعات الجنائية والاقتصادية بسهولة أكبر بكثير من فترته الأولى .
والأخطر أن ترامب سيتمكن من أن يختار هذه المرة قضاه وسهولة وسرعة أكبر واختبار القضاه بلا شك يغير وجه أمريكا لعشرات السنين وذلك لتحقيق نسخته من العدالة ؛ بل إنه من المحتمل أنه من خلال اختياره لتلك القضاه أن يصدر عفو على المدانين في اقتحام العدد من الكابيتول في السادس من يناير 2020 .
كذلك من المحتمل أن يشن ترامب هجوم على أجهزة السلطة التنفيذية والموظفين العموميين الذين يعملون في قطاع الحكومة تحت عنوان خفض النفاقات ، وهذه تمثل طريقة عظيمة للتخلص من خصومه السياسيين .
ولذلك فإن ترامب ليس من أشد الناس إعجابا بالدستور الأمريكي ، وأغلب الظن أنه يتمنى أن يتجاوزه ، وهذا واضح جدا من احترامه وعلاقاته الطيبة مع زعماء مستبدين حول العالم ، وكان هذا واضح جدا في تعامله مع هزيمته في 2020 حين قال بأعلى صوته بأن الانتخابات سرقت منه ، وهذا مؤشر على الطريقة التي يبغي أن يحكم ترامب .
ومن المؤكد أن أصداء انتصار ترامب في الانتخابات الأخيرة سيكون لها صدى في أماكن بعيدة جدا عن الولايات المتحدة ، وهذا يفسر لنا لماذا هذه الانتخابات الأمريكية في هذه المرة تحديدا كانت أكثر انتخابات ينتظر العالم نتيجتها .
والحق يقال هناك عواصم عديدة في العالم تهتز حاليا سواء كانوا حلفاء أو أعداء للولايات المتحدة ، حيث إن ترامب رجل معروف القدر بالنسبة للجميع ، في كونه حادا ، وغريب الأطوار أحيانا ، ومن الصعب على أحد أن يتوقع توجهه اللحظي .
ولذلك رأينا خلال فترة ترامب الأولى تسبب في قدر هائل من التوتر لحلفاء أمريكا وقدر أكبر من الارتياح لخصومها ولا أتوقع بأن الحال يختلف في ولايته الثانية ، وهذا الأمر قد أحدث نتيجة هائلة بدليل أن أعتى خصومه يعترفون بأن فترة ولايته الأولى لم تكن سيئة .
وفيما يتعلق بالضرائب واللوائح والمحاكم ، فقد كان ترامب يحكم على أساس أنه سياسي محافظ تقليدي ، وكان متوافق مع قيادات رغبات الكونجرس من الجمهوريين ، وفيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة في الخارج فإنه لم يسحب الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي رغم كل الكلام العنيف الذي كان يطلقه بين الفينة والفينة عن عدم جدوى الحلف ، ورغم ضغطه على حلفاءه فقد نجح في أن يجعل هؤلاء الحلفاء يسثمروا بشكل أكبر في ميزانياتهم العسكرية ، كما ساعد في التوصل إلى اتفاقيات مهمة في الشرق الأوسط وتبنى منهج صارم تجاه الصين وأعاد توجيه السياسة للأتجاه الذي يحق مكاسب للولايات المتحدة الأمريكية .
وهذا ما سارت عليه بعد ذلك إدارة بايدن ، ولذلك ترامب بالفعل من جعل الولايات المتحدة تدرك الآثار السلبية للسياسات التجارة الحرة ، وهو أول من ضرب جرس الإنذار في أن تلك السياسات تلحق الضرر بالعمال في أمريكا ، ولكن إدارة ترامب الثانية ستكون أكثر خطورة ويمكن توضيح ذلك : في فترته الأولى كان ترمب يعاني من تكتيف مستشاريه في بعض القرارات التي كان يريد أن يتخذها ، وهؤلاء المستشارين بعد سقوطه في انتخابات 2020 خرجوا إلى الإعلام ليفضحوه ، ومن هؤلاء المستشارين : مايك بنس ، ورئيس موظفي البيت الأبيض السابق جون اف كلي ، ووزير الدفاع السابق مارك تي اسبر ومستشار الأمن القومي السابق جون بولتون ، كل هؤلاء جميعا خرجوا عن بكرة أبيهم وقالوا علنا ما معناه أن ترامب رجل لا يصلح في أن يكون رئيسيا ،وهذا الأسماء لن تعود خلال فترة ترامب الحالية .
ومن ثم لن يجد ترامب أحد أن يعارضه في الإدارة الجديدة ولن يتم نفس السيناريو كما حدث من ذي قبل ، بل ترامب نفسه هو من يحدد مسار رئاسته ومن حوله سيكون دورهم السمع والطاعة ، ولكن هذا لا يعني أن ترمب سوف يقود الولايات المتحدة بسلطات مطلقة ، ولكن ما زالت هناك قيود ؛ فمثلا لو ترامب قد حاول خلال فترته الثانية يأخذ أي قرار متطرف فسوف يواجه عقبات ، وأول وأهم عقبة المحاكم والتي تحكم لغير صالحه بشكل دائم منذ 2020 ، ثاني عقبة وهو الكونجرس ، صحيح أن الكونجرس يملك اغلبية جمهورية ولكن الكونجرس ما زال متوازنا إلى حد كبير بين الجمهوريين والديمقراطيين ، وهناك قرارات كثيرة سحتاج فيها لموافقة حوالي 60 % من أعضاء مجلس الشيوخ ، وثالث عقبة والتي تخصه هو شخصيا وهو أنه في العادة إنسان لا يلتفت للمواضيع المؤسسية والتفاصيل التنظيمية ، وهذه فقط بإمكانها أن تعطل ترامب .
بيد أن ترامب خلال فترته الثانية سيكون في يده سلاحا لم يكن معه خلال فترته الأولى وهي معلومة أن المحكمة العليا الأمريكية قضت بأن الرؤساء يتمتعون بالحصانة من الملاحقة الجنائية في جرائم عديدة ، حيث تمكن من كسب هذا الحكم خلال الصيف الماضي كجزء من استراتيجيته الدفاعية في مواجهة التهم الفيدرالية الموجهة إليه فيما يخص قضية اقتحام الكابيتول.