بقلم / محمـــد الدكـــروري
يروى أن أحد الصالحين قام فجعل لنفسه في بيته قبرا، وكلما سيطرت عليه الشهوات، وسيطرت عليه الدنيا، وسيطرت عليه الفتن نزل إلى هذا القبر الذي حفره بيديه، ويغلقه على نفسه بخشبة أعدها لذلك، ويظل يصرخ في قبره ويصيح ويقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، ويظل يصرخ ويصيح بأعلى صوته حتى تنقطع أنفاسه، ويغرق في عرقه، فيقلع الخشبة ويخرج إلى النور والهواء، ويبكي ويقول ها أنت يا نفس قد عدت، وفي قوله تعالي “في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون” وقيل ثم يعرج إليه أي يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون وهو يوم القيامة، وعلى الأقوال المتقدمة فالكناية في يعرج كناية عن الملك، ولم يجر له ذكر لأنه مفهوم من المعنى، وقد جاء صريحا في سأل سائل وهو قوله تعالي “تعرج الملائكة والروح إليه” والضمير في إليه يعود على السماء على لغة من يذكرها.
أو على مكان الملك الذي يرجع إليه، أو على اسم الله تعالى والمراد إلى الموضع الذي أقره فيه، وإذا رجعت إلى الله فقد رجعت إلى السماء، أي إلى سدرة المنتهى، فإنه إليها يرتفع ما يصعد به من الأرض ومنها ينزل ما يهبط به إليها ثبت معنى ذلك في صحيح مسلم، والهاء في مقداره راجعة إلى التدبير، والمعنى كان مقدار ذلك التدبير ألف سنة من سني الدنيا أي يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إلى ملائكته فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى، ثم كذلك أبدا قاله مجاهد وقيل الهاء للعروج، وقيل المعنى أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، وقيل المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى موضعها من الطلوع، في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة، وقال ابن عباس المعنى كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة لأن النزول خمسمائة.
والصعود خمسمائة، وروي ذلك عن جماعة من المفسرين وهو اختيار الطبري ذكره المهدوي، وهو معنى القول الأول أي أن جبريل عليه السلام لسرعة سيره يقطع مسيرة ألف سنة في يوم من أيامكم، ذكره الزمخشري، وذكر الماوردي عن ابن عباس والضحاك أن الملك يصعد في يوم مسيرة ألف سنة، وعن قتادة أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة، ومقدار صعوده خمسمائة على قول قتادة والسدي، وعلى قول ابن عباس والضحاك النزول ألف سنة والصعود ألف سنة، مما تعدون أي مما تحسبون من أيام الدنيا، وهذا اليوم عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم، وليس بيوم يستوعب نهارا بين ليلتين لأن ذلك ليس عند الله، والعرب قد تعبر عن مدة العصر باليوم، كما قال الشاعر يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب، وليس يريد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين.
فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم، وقرأ ابن أبي عبلة يعرج على البناء للمفعول وقرئ “يعدون” بالياء، فأما قوله تعالى “في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” فمشكل مع هذه الآية، وقد سأل عبد الله بن فيروز الديلمي عبد الله بن عباس عن هذه الآية وعن قوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقال أيام سماها سبحانه، وما أدري ما هي ؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم، ثم سئل عنها سعيد بن المسيب فقال لا أدري فأخبرته بقول ابن عباس فقال ابن المسيب للسائل هذا ابن عباس اتقى أن يقول فيها وهو أعلم مني، ثم تكلم العلماء في ذلك فقيل إن آية سأل سائل هو إشارة إلى يوم القيامة، بخلاف هذه الآية، والمعنى أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة، قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر، قال ويوم كظل الرمح قصر طوله، دم الزق عنا واصطفاق المزاهر وقيل إن يوم القيامة فيه أيام.
فمنه ما مقداره ألف سنة ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة، وقيل أوقات القيامة مختلفة، فيعذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة، ثم ينتقل إلى جنس آخر مدته خمسون ألف سنة، وقيل مواقف القيامة خمسون موقفا كل موقف ألف سنة، فمعنى يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة أي مقدار وقت، أو موقف من يوم القيامة، وقال النحاس اليوم في اللغة بمعنى الوقت فالمعنى تعرج الملائكة والروح إليه في وقت كان مقداره ألف سنة، وفي وقت آخر كان مقداره خمسين ألف سنة وعن وهب بن منبه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال ما بين أسفل الأرض إلى العرش وذكر الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك في قوله تعالى “تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” أراد من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها جبريل، ويقول تعالى يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا،
وقوله “إليه ” يعني إلى المكان الذي أمرهم الله تعالى أن يعرجوا إليه، وهذا كقول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام “إني ذاهب إلى ربي سيهدين” وهو أراد أرض الشام، وقال تعالى “ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله” أي إلى المدينة، وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم “أتاني ملك من ربي عز وجل برسالة ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى على الأرض لم يرفعها بعد”