بقلم / د. فرج أحمد فرج
باحث انثروبولوجيا
خرجت علينا مواقع التواصل الاجتماعي تحث المواطنين علي الطعام في اماكن ومطاعم معينة واصبحت مهنة امتهنها البلوجر للاعلان عن التوجية للطعام وزيادة تحريك الشهيه وعرضها في صواني وطواجن وتفنن في طريقة عمل الملوخية واستعراض صبها في الاطباق وخصصت لها البرامج في وسائل الاعلام المرئية واصبح مقدمي تلك البرامح والمدونين يتقاضون اعلي الروانب وهذه الظاهرة قديمة ولكن وفق الوسائل المتاحة .
ولهذا توجه علماء الانثروبولوجيا نحو دراسة الطعام منذ بدايات القرن التاسع عشر مع ريادة ادوارد تايلور في دراسته التننظرية للدين عند القبائل البدائية مرورا بفرانز بواس في دراسته لاعدادات السمك السلمون وصولا لبرنسلاف مالينوفسكي في دراسته المستفيضة لسكان جزر الترورياند وصيادي الباسفيك ودراسة اودري ريتشاردز عن العمل والجوع في روديسيا .
ان الغاية من دراسة الثقافة في المنظور الانثروبولوجي هي لاجل بيان المواقف السلوكية للبشر وكيفية تشكل النشاط البشري ضمن قواعد محددة اذ يرتبط ظهورها في مجال الطعام بتلك الفعاليات التي تختص بأفعال انتقاء الطعام واعداده واساليب تناوله والمرغوب وغير المستساغ والمحرم وعاداته ، من اجل تشكيل ما يعرف بالوجبة التي تعد منتجا بشريا بوصف الانسان من الناحية البيولوجية الكائن الذي يطهو طعامه وقد تباينت اساليب اعداد الطعام والمكونات الداخل فيه من بيئة الي اخري وكذلك اختلاف اساليب اعدادها من ثقافة الي اخري
الثقافة ضربا من السلوك الانساني وتسعي دائما تنظيم نفسها باستمرار ، ولذلك نري السلوك الانساني مرتبط بوجبته الغذائية التي يتناولها في حالة مستمرة من التطور والتغير المستمر من خلال تطور الاجزاء المكونة له .
فالسلوك الانساني يتكون من تداخل الوجود العضوي للكائن البشري ( سلوك فطري)والمحفزات الثقافية ( سلوك مكتسب) .
فالسلوك الخاص بتناول الطعام يتكون من استجابة الجسم لفقدان الطاقة من خلال الاحساس بالجوع ، والاستجابة الثقافية له من خلال المراحل التي يتبعها الفرد عند تناوله للطعام ، اذ يمر الانسان بمراحل روتينية يومية تتضمن ( الاستقبال ، الاعداد ، التناول ).
هناك من يأكل ليعيش واخر يعيش ليأكل ، فالمصري يكفيه اي شيء وهو في النهاية يأكل اي شئ يشعره بالشبع .. صحن فول وكام قرص طعميه وبصله صعيدي وطمطمايه وخياره وكام عود جرجير .
المصري يأكل ليشبع معدته بينما أخريين يأكلون ليستمتعون ويشبعون امزجتهم ، فنحن علي مدي عصور من الصبر علي المكاره يرضي فيها الفرد بالقليل حتي لو اكل لقمة عيش حاف ويطبع قبلة علي يده ظهرا وبطنا ويحمد ربنا ، ويكتفي بكوب شاي يضع فيه خمسة ملاعق سكر ، كي يمنحه السكر قدرا من الطاقة الزائفة .
فمثلا الملوخية التي علي مائدتنا منذ عصر الحاكم بامر الله يعتبرها الاخرين ما هي الاشوربة خضراء وعندما نريد ان نأكل مسكرا ، ناكل الرز بالبن ، فهو طبيخ الفقراء الذين حافظوا علي انفسهم من الانقراض بطرق شتي وتحملوا من اجل ذلك ,شد الحزام علي بطنك شد, وما لايستطيع ان تتحمله العفاريت , وكأن الفقراء الذين تحملوا كل صنوف ادعاءات المسئولين الوعود انتظارا ليوم سيحضر بالرفاهية وكانهم قد ركبوا قطار سكة حديد يجر وراءه سبنسه لا تفارقه ولاتنفصل عنها ابدا ولا لاي سبب من الاسباب .
الاكل وحده ليس هو صاحب الفضل في بناء الاجسام ولكن الاكل يحتاج الي معدة تهضم الزلط وجلد سميك لا يهتم الا بالاحوال الخاصة ولا يشغل باله بأحوال الاخرين
مع العلم بأن المعدة هي بيت الداء وهي فعلا بيت الداء ،داء المرض ، وداء الطمع واللهفة علي التكويش والاكتناز.
الاكل هو محرك التاريخ وهو الهدف والاصل حتي وان حاول البعض تغليف المسائل بالسوليفان ، وما الحيوان المتوحش والذي يتصرف بطبيعته ويمارس حياته كما ارادها الله ، وما الذي يفعله الحيوان بالضبط؟
لا شئ سوي الاكل والحب والنوم ، وصحة الانسان ليست للمساومة ولا تقبل المقايضة والدنيا حظوظ ومزاجات .
في مروج الذهب للمسعودي ، نوه للسكون والصمت عند الطعام ، لتأخذ الطبيعة بقسطها فيصلح البدن بما يرد اليه من الغذاء وتسكن به النفوس .
ورصد لم تقع ثورة في التاريخ القديم والحديث وقته الا بسبب قلة الرواتب وغلاء المعيشة وندرة المواد الغذائية وتفشي الجشع وانعدام مراقبة الاسواق وترك مصائر الناس بيد التجار دون مراجعة او حساب وتقاعس دور الدين ، فتتفشي المجاعة بين الناس .
وفي المقابل تذدهر عندما تكون الاسواق عامرة والاحوال رائجة وموائد الكبار حافلة بكل مالذ وطاب وممدودة لكل عابر سبيل ولا يمكن ان يسود الرخاء الا بحاكم عادل يسوس الرعية علي اسس بينهم مرعية ليحول بين اطماع البعض لاكل حقوق البعض الاخرين . حتي لا يتحول المجتمع الي غابة يفترس فيها الاسود والذئاب الفصائل الراضية والمستكينة للجوع .
والجبرتي يصف اهل مصر قديما بأنهم من محاسنهم وفضائلهم الظاهرة لاعدائهم ، الفقير فيها يعيش رغدا عفيفا وتتسع مائدته دائما للجليل والحقير والقادم وعابر سبيل . واختفي بينهم مقولة عشانا عليك يارب ! في وقت الرغد.
بينما في وقت الشدة .. الفقراء عندما لايجدون الطعام تشيع بينهم النهب والسرقة من غلال الادارة المركزية ، وهذا المشهد صوره خالد يوسف في فيلم حين ميسرة !
وهناك قصيدة في ديوان العرب ، هجا فيها احد الشعراء قوما لبخلهم فقال: قوم اذا استنبح الاضياف كلبهم .. قالوا لامهم بولي علي النار .
وفي الثلاثينات فضح شاعر الغلابة عبد الحميد الديب المجتمع محنته وفقره وتشرده وجوعه اياه وشكي الزمان .
وهام بي الاسي والبؤس حتي كأني عبلة والبؤس عنتر .
كأني حائط كتبوا عليه .. هنا ايه المزنوق ترتر.
وبعد موته كتب كامل الشناوي في رثائه .. اليوم مات شاعر تعري واكتست الاضرحة وجاع وشبعت الكلاب .
فعندما ينقسم المجتمع قسمين ويصبح بينهم خندقا عميق ويصبح هنا جوع وهناك شبع ووفرة وندرة .
فالانسان الاول كان يأكل مالذ وطاب من ثمار الاشجار والارض البندق والفستق واللوز والجوز والفواكه والخضروات الطازجة ، كل ذلك قبل اكتشاف النار والتي معها تغير نظام الطعام وانقلبت حياته معها رأسا علي عقب .
اكد ايغور دي غارين علي ضرورة بناء انثروبولوجيا الطعام ،
الأنثروبولوجيا الغذائية هي التفاعل بين علم الأحياء البشري والنظام الاقتصادي والأمن الغذائي، وكيف تؤثر التغييرات في السابق على الأخير.
إذا كانت التغيرات الاقتصادية والبيئية في مجتمع ما تؤثر على الوصول إلى الغذاء والأمن الغذائي والصحة الغذائية، فإن هذا التفاعل بين الثقافة والبيولوجيا يرتبط بدوره بالاتجاهات التاريخية والاقتصادية الأوسع المرتبطة بالعولمة. تؤثر الحالة الغذائية على الحالة الصحية العامة، وإمكانيات أداء العمل، والإمكانات الشاملة للتنمية الاقتصادية (سواء من حيث التنمية البشرية أو النماذج الغربية التقليدية) لأي مجموعة من الناس.
اوضح ايغور تمثل الاطعمة بالنسبة له جزء اساسيا من الهوية الثقافية للشعوب والشعور بالانتماء لجماعة ما .
فالانسان من المحتمل ان يكون مستهلكا نهما .. الا ان الثقافة تلعب دورا هاما في تكييفه لحل مشكلاته اثناء تلبية احتياجاته الغذائية في نظام متناغم كما يؤكد دي غرين علي طابع انثروبولوجيا الطعام من خلال دراساته وضرب مثال لقبيلتي الماساي والموسي في وسط وجنوب كينيا وشمال تنزانيا ، اللتان تستهلكان بعض الاطعمة التي تعمل علي تأكيد هوية الفرد ككائن ثقافي .
فرج احمد فرج
باحث انثروبولوجي