بقلم / عبير مدين
قبيل شروق الشمس بقليل كان البيت مثل كل صباح كخلية النحل الجميع في حالة يقظة ونشاط أعدت الأم الفطور ووضعته في سلة الطعام ثم نادت على صالح ابنها الأكبر ليحملها وهو بصحبة والده في الحقل الذي يبعد حوالي كيلو متر واحد عن البيت تعلق محمد بعنق والده وبكى بحرقة ليأخذه معه حاولت الام أن تأخذ صغيرها ذو الثلاث سنوات من والده لكن دون جدوى فقال صالح وقد شعر بالضجر من صراخ أخيه فقال بعصبية اتركيه يأتي معنى يا امي فقالت وهي مازالت تحاول أن تأخذه من حضن أبيه لا أمامكم الكثير من العمل وهذا الصغير العنيد قد يلهيكم عن العمل هو يحتاج لمن يتفرغ لمراقبته ورعايته فقد يبتلع شيئا يضره أو يرتكب فعلا يؤذيه
قال صالح هو لن يصبر على البقاء معنا فلا صغار يلعب معهم ولا شيء يسليه قالت اليوم أيضا الجو بارد جدا عليه ألا يخرج من البيت خشية أن يمرض سوف احضر لكم طعام الغداء واصطحبه معي ليلهو أمام عيني شعر الأب بالشفقة على الصغير الذي يبكي بحرقة و قال اتركي الصغير يأتي معنا وانتهي من شؤون البيت وإعداد طعام الغداء وعند عودتك ارجعيه معك وسوف اجعله تحت عيني.
الطريق للحقل لم يكن بعيدا فمنزل الأسرة على اطراف القرية حمل صالح ابن الثالثة عشر سلة الطعام وحمل أبوه على كتفه شقيقه محمد الذي لوح لأمه بكفه الصغير مودعا وهو يبتسم من خلف دموعه التي توقفت فجأة ابتسامة المقاتل المنتصر.
بدأ الأب تعليق البقرة في الساقية لتدور وترفع الماء من الترعة الكبيرة الممتلئة حتى الحافة بالمياه فيما قام صالح مستخدما فأسه الصغير بإصلاح مسار القنوات الصغيرة الداخلة إلى الحقل وبدأت المياه تجري بين الزرع وهي تلمع تحت اضواء الصباح الباكر ومحمد يضحك بسعادة وهو يراقب دوران البقرة في الساقية تارة وسريان المياه في القنوات الصغيرة تارة فيمسك قطعا صغيرة من الحصي يلقيها في الماء وتزداد ضحكته عندما يرتطم رذاذ الماء في وجهه
تسلل الصغير ووقف على حافة الترعة المؤدية للساقية وهى ترعة واسعة عميقة ممتلئة بالماء يرمى بقطع الطوب فى مياه الترعة ويتابع الموجات التى تتولد من سقوط الطوب فى فيها وقعت عينه على طوبة كبيرة أراد حملها وقذفها فى الترعة فوجدها ملتصقة بالأرض أخذ يحاول تحريكها من كل الإتجاهات وأخيرا و ظهره للترعة تحركت الطوبة الكبيرة فجأة وأندفعت ناحية الترعة وأخذته معها إلى القاع.
لمح صالح شقيقه وهو يسقط ويغوص فى الماء السوداء فأنطلق وقفز فى الترعة وغاص تحت الماء يبحث عن شقيقه دون أن يراه بسبب الطمي الذائب في الماء إلى أن إصطدمت يداه به فحمله سابحا ليطفو فوق السطح فى هذه اللحظات كان ابوهما على مسافة بعيدة لكنه رأى صالح وهو يقفز فى الترعة بملابسه فتوقع ما حدث وجاء يجرى وقفز هو الاخر فى الترعة دون ان يرى إبنه يحمل شقيقه محاولا الصعود به وما إن رآه أسرع إليه وساعده في إخراج الصغير وأخذا يعصران ملابسه وهو يرتعد من البرد، فأجلسوه فى مكان بعيدا عن تيار الهواء
في هذه الأثناء كانت الأم تجلس أمام الفرن تعد الغداء وتخبز الخبز الذي فاحت رائحته من البيت شعرت ان قلبها ينقبض فجأة أخرجت يدها من العجين بسرعة وهي تدعوا الله أن يسلم أسرتها وسارعت لتطمئن عليهم، كانت تمد الخطى وقلبها مازال يعتصر فخلعت شبشبها واطلقت لساقيها العنان حافية القدمين لا تشعر بتلك الحجارة الصغيرة التي اخترقت قدميها وادمتهما.
عندما إقتربت رأت زوجها وابنها الأكبر يقفان بجانب الترعة ولم ترى صغيرها فزاد قلقها وأخذت تصرخ وانفاسها متقطعة لعلهما يسمعاها فيطمئناها أين إبنى؟ أين محمد إبنى؟! وعندما إقتربت أكثر وجدتهما بملابس مبللة والصغير ليس معهما ارتفع صراخها وأخذت تلطم وجهها وزوجها الذي اخرسته الصدمة يشير لها إلى مكانه وصلت وهى تقول برعب إياك ان يكون إبني غرق! فرد عليها هو فعلا كان قد غرق وأنقذه أخوه فقالت وهى تصرخ أنا من أخطأ وأخذت ترددها مرات كيف وافقت ان يخرج بدونى أنا المخطئة وإنطلقت إليه تحتضنه وهو يرتجف ملفوفا في جلباب والده واسنانه من البرد وأخذته وعادت للبيت وأصدرت فرامانا لا خروج له إلا معها
ظل الحادث محفورا في ذاكرة الصغير على مدار سنوات عمره يتذكره كلما زار قريته ضاحكا كلما تذكره وحكاها والديه وشقيقه ولم يثنيه عن تحدي الخطر وتعلم السباحة حتى أطبق عليه ماء الترعة مرة أخرى بعد أن تجاوز مرحلة الطفولة.