المعدن النادر والخلق الغريب


بقلم / محمـــد الدكـــروري

لقد أصبح الصدق في هذا الزمان معدنا نادرا، وخلقا غريبا، أهله قلة، وأربابه معدودون، والجولة في هذا الزمن جولة الكذب وأهله، والزيف وحملته، والباطل ومروجيه، كذب على شتى المستويات، وجميع الطبقات، ويا ليت من يقصر يكون صادقا، ويقول ما كان لي من عذر، فهو أكرم له عند الله عز وجل وأنجى له من اختراع المعاذير، التي يحسن بها صورته أمام الخلق ليحظى برضاهم، وما أجمل الصدق في موقف كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف مع من تخلفوا عن غزوة تبوك، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغزوة بعد أن فكر وأعيته الحيل ثم هداه الله عز وجل إلى الصدق والصراحة، وتحمل نتيجة ذلك في جرأة، مهما يكن الأمر فذلك خير له عند الله عز وجل من اختراع المعاذير الكاذبة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان لي من عذر، فلقي جزاءه من تعزير الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسلمين له بهجره خمسين ليلة.

ثم أنجاه الله بصدقه وتاب عليه، أما الذين أتوا للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اخترعوا المعاذير الكاذبة فقد هلكوا، وتهددهم الله بالعذاب، فقال الله عز وجل، فى سورة التوبة ” وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ” وإن تعامل الناس اليوم مع ربهم أو فيما بينهم قل أن تشم فيه ريح الصدق، أو تجد عبير الحق، ولذلك محقت بركة الأخلاق والأرزاق والأذواق، لأن الصدق هو ملح كل شيء ونكهته، إنه أساس الرفعة في الدنيا، والنجاة في الآخرة فقال الله تعالى فى سورة المائدة ” قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ” وإن الصدق يكون مع الله ومع النفس ومع الآخرين، الصدق مع الله في عبادته، في تحمل أمانته، في اتباع أوامره واجتناب نواهيه، في الدعوة إليه.

فقال عز وجل فى سورة محمد ” فلو صدقوا الله لكان خير لهم ” وقال أحد السلف لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله، وقال آخر مَن طلب الله بصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل، والصدق مع النفس بعدم خداعها وإهمال شأنها وترك محاسبتها، فكم من الناس من يعرف أنه كاذب مع نفسه ومع ذلك يمضي على غيه، ويغرق في كذبه، ولو أنه وقف مع نفسه وقفة محاسبة صادقة، فعرفها قدرها، وأمسك زمامها، لكان خيرا له وأشد تثبيتا، فقال أحد السلف الصادق لا تراه إلى في فرض يؤديه، أو فضل يعمل فيه، والصدق مع الناس، وهذا ما تحزن له القلوب، وتذرف له الدموع، وتتمزق له النفوس أن ترى المسلمين فيما بينهم يقل مَن يصدق منهم مع إخوانه، بل يتفنن كثير منهم في خداع الآخرين، والكذب على المؤمنين، فهناك كذب في الوعود، وكذب في العهود، وكذب في العقود، وكذب في المسؤوليات.

وكذب في المبايعات، وكذب في الأمانات، وكذب في الحديث، وكذب في العلاقات، وإن الصدق مع الناس يكون بالصدق في النصح لهم، والصدق في حبهم، والصدق في التعامل معهم، وإن هذا الدين قامت أسسه على الصدق، ورتبت أجزاؤه على الصدق، والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر، هذا عذب فُرات، وهذا ملح أجاج، وإن أصدق الصدق هو كتاب الله عز وجل فهو سبحانه القائل فى سورة النساء ” ومن أصدق من الله حديثا ” وجاء هذا الكتاب كما قال تعالى فى سورة المائدة ” مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا ” وإن النبي الذي اختاره الله تعالى لحمل رسالته، هو أصدق إنسان عرفته الدنيا، وتزين به التاريخ، وتعطر به الكون بل لقد كان صلى الله عليه وسلم، منذ صباه ومن قبل مبعثه لابسا تاج الصدق في الجاهلية، فكانوا يسمونه “الصادق الأمين” وحينما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى كما جاء فى سورة الشعراء ” وأنذر عشيرتك الأقربين ” جمع قريشا ثم صعد الصفا وقال صلى الله عليه وسلم لهم “أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصدقيّ؟ قالوا نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، فقال صلى الله عليه وسلم “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد” متفق عليه، فكان صلى الله عليه وسلم، صادق التعامل، صادق الخلق، صادق اللهجة، صادق الخبر، فلما ابتعثه الله تعالى عاش مؤيدا بالصدق الذي لا يعتريه زيف، أو يمازجه كذب، أو يخالطه افتراء، فقال عنه المولى سبحانه وتعالى فى سورة النجم ” ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى ” فهو الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، ولما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أسرع الناس إلى تصديقه، وأسبقهم إلى تأييده، سمي بالصديق، فكان تاجا عظيما لا تخفضه الأيام، ولا تزيحه الدهور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.