د. محمود محمد علي
أنظر معي مع من تروج لمحتواها عبر تعريها وتمايعها بشكل مقيت وثقيل تحت مسمى ” الحرية الشخصية” ، وكل إنسانا حر بجسده وحياته ، ضاربة عرض الحائط ، حرمة المجتمع وتكوينه النفسي والاجتماعي والأخلاقي.. هذا عهر أم لا ؟ … قس على ذلك من يقوم بجذب تابعيه عبر عرض أخته باللباس الفاضح ويعمل على مقارعتها بالألفاظ النابية المنحطة هو عهر أم لا؟… ومن تخرج أمام الكاميرات تروي القصص الجنسية أمام الناس مستترة بغطاء العلم أو الدين بهدف لملمة المشاهدات أليست من ذات الصنف؟
ولهذا فحريتك تبدأ عندما تبدأ حرية الآخرين ، وكلنا يعرف هذه المقولة ، وهذا هو حديث الأخلاق ومنطقها بعيدا عن الدين .. أليس عهرا أن تخدش حياء البشر الذين تتقاسم معهم الأرض التي تعيش بحرمتها الأخلاقية والقيمية ، بخطوطها الحمر التي شكلت هويتها وثقافتها وتمييزها عبر تاريخها .. أليس في نشر تلك الفيديوهات والتسويق لها هدم لصورة المجتمع التي تحيا فيه بالحجة تصورك الشخصي للحرية ، وما تسميه تمردا وتميزا واختلافا أو حتى سبيلا للعيش ، أليس هذا البيع الرخيص للقيم والأخلاق نوع من أنواع العهر ؟ .. أين المؤميسات من ذلك ؟ .
من منا لم يصادف موظفا أو مسئولا حكوميا لا يمرر معاملة حكومية إلا بذلك بمبلغ من المال ، هذا عهر وظيفي أم لا؟ .. من يستغل منصبه الوظيفي أيا كان دوره مقابل مصلحته وبغية إشباع شهواته ورغباته هو عاهر أيضا؟ .. والدكتور الجامعي الذي يمص دماء طلابه لشراء محاضراته وكتيباته وهو على يقين بعدم فائدتها أو الذي يبيع أسئلة امتحاناته ويقبص ثمن محصلات طلابه وشهاداتهم ، لا يعدوا كونه عاهرا .. وكذلك الطبيب عندما يتاجر بمرضاه ويستغلهم بوصفات دوائية وتحايل مخبرية غير نافعة لإتمام الصفقات مع الصيدليات والمخابر … وأيضا المعلم الذي ينأى عن تعليم طلابه في المدارس ويضطرهم للاشتراك في دوراته ومعاهده .. حتى الإعلامي الذي يبيع قلمه ويقلب الحقائق وينطق بالباطل ويشهد بالزور ويرتهن للمال دون المبدأ ، فيميل حيث الكفة تميل هو عاهر ولص .. والممرض والقاضي والمحامي والأمثلة كثيرة فأين عهر المؤميسات من ذلك .
في البحث عن أسباب العهر آيا كان شكله وماهيته ، نرى أنه وليد اضطرابات نفسية حياة عند الشخص المصاب وغالبا ما تعود إلى آثارا صدمات عاطفية حادة أثناء الطفولة وهذا ما يجعل لديه نوعا من اضطراب خاص في منظومة القيم وتشوه في بنية العلاقات القائمة مع محيطه .
وغالبا ما ينشأ العهر من الانفصال العاطفي الذي يعيشه الفرد مع نفسه ، والانفصال العاطفي هو حالة من الخدر النفسي والروحي التي تصيب الفرد ، فتجعله غير قادر على تمييز سلوكياته وأفعاله ما بين الصحيح والخاطئ، والصواب والخطأ مفهومان نسبيان يختلفان باختلاف المجتمعات وبنائها النفسي والاجتماعي والأخلاقي ، فالسائد الأخلاقي في مجتمع ما قد لا يكون كذلك في غيره ، وعليه فالعهر يتبعه حالة من الانفصال عن الواقع تجعله يعاني مشاعر الذنب والعار والخجل والتي عادة ما تضبط الفرد السوي عن الانجراف خلف السلوكيات الباطلة وتحده بشيء من الأدب والأخلاق .
في كثير من الأحيان قد تكون تلك الطباع الخبيثة والسلوكيات المريضة وليدة التربية أحيط بها الفدر في طفولته ، فمعظم بنات الموميسات هم القريبون للمومسة ، وكذلك الفساد وانعدام الأخلاق ينتقل بالتربية والتعليم ، فمن كان محاطا بعائلة مريضة ، وجب عليه أن يسلك سلوكهم ، وهل انعدام الأخلاق تورث؟ .. في كثير من الأحيان نعم، كما أن المجتمع يلعب دورا مهما في تفشى هكذا أنماط من السلوكيات ، فالمجتمع بمختلف ضوابطه هو الذي يحد بشكل أو بآخر من انتشار السلوكيات والأفكار الشاذة ، وعند انهيار المجتمعات وضعف سطوتها غالبا ما تنتشر هذه الأنواع وتطغى على المشاريع .
وتعود في الغالب أسباب الفساد الأخلاقي والسلوكي لدى الأفراد إلى البيئة التي ينشأ منها ، كما أن هناك عوامل نفسية وشخصية أخرى ، فالضعف هو السبب الأساس لهذه الطبائع الخبيثة ، ضعف المرء أمام شهواته ورغباته ونزعاته الشخصية دوان مراعاة الصالح العام وتقدير حدودهم واحترامهم ، كما أنها تصاحب غالبا الشخصية الانتهازية المتسلقة والتي تسعى إليه مصالحها وإن كانت في معرض مصالح الآخرين ، وعلى العموم فإن ممارس هذه السلوكيات والمتطبع بطبائع الفساد لا يملك أيا مفهوم وجداني أو أخلاقي لأن يراجع أفعاله ، بل هو كالدواب لا فرق بينهما .
إن العهر في نهاية الحال ليس مقتصر على دور البغاء والعربدة ولا يعد حكرا على البغايا الموميسات وبائعات الهوى وفتيات الليل ، بل هو في أساس الحال لطبع أصيل من طبائع النفس الدنية وصفة من أوصاف الشخص الوضيعة ، كما أن العهر وإن تباينت لمحاته واختلفت أشكاله يظل واحدا في تركيبته ، وواضحا في سماته ، وينضوي على بيع المبادئ العليا مقابل الغايات الدنيا ، وعلى المرء أن يتفكر في أن العهر ليس منفردا في مجالا واحدا ، بل هو ذو أنياب ضاربة في كل مضمار ، وأنه وإن غابت مفاهيم الخلق السامية ، استشرف واستوحش في كل مجالات الميادين وإن الحل يكمل في نزوع الفرد عن أرضيته البحتة وانتفاءه عن شرورها وعبثها والتوجه بقلبه وروحه نحو السماء بوصاياها السامية لينجوا من شرائر النفس وشياطينها ، وغن لكل داء دواء ، ودواء النفس كامنا فيها ، فاعدلوا في نفوسكم يصلحكم الله ، فيرزقكم من بركاته ويرسل السماء عليكم مدرارا ويمدكم بأموالا وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا .
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط
المراجع
1- العهر بأشكاله المختلفة – خبايا السقوط الإنساني / د. مأمون علواني – برنامج إينغما.
2- سامح سليمان: سؤال وإجابه حول مفهوم العهر، الحوار المتمدن-العدد: 4737 – 2015 / 3 / 3 – 14:27