بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن الحمد لله الخافض الرافع نحمده أن أنزل القرآن على الناس يتلى وأذهب به عن الأرواح المواجع، يا ربنا لك الحمد على كل حال وواقع، اللهم إنا نشهدك على أنفسنا بأننا نشهد بأنك أنت الله رب كل شيء ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، محمد عبدك ورسولك، اللهم صل وسلم وبارك عليه واجعل له صلاتنا وديعة يا من لا تضيع عنده الودائع، وبعد عباد الله اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ثم أما بعد إن الحضارة الإسلامية قامت على أساس الوحدانية المطلقة في العقيدة، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريك له في حكمه وملكه، هو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يقصد “إياك نعبد وإياك نستعين” وهو الذي يعز ويذل ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.
وهذا السمو في فهم الوحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوى الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين، ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف ” نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدي” أي نقص عليك يا محمد قصتهم المطابقة للواقع والفتية هم الشباب، فهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، وقد قيل إنها مدينة يقال لها طرسوس من أعمال طرابلس الشام، وفيها من الآثار القديمة العهد في جبل بها، ما يزعم أهلها زعما متوارثا أنه لأصحاب الكهف وقد بيّن الله تعالى صبرهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد بقوله سبحانه.
” وربطنا علي قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا” أي قوينا قلوبهم بالصبر على المجاهدة، وشجعناهم على الفرار بدينهم، والربط يأتي بمعنى الشد، فقالوا ربنا إله واحد هو الله، لن نعبد من دونه أحدا، ومعني شططا، أي ذا بعد عن الحق مفرط في الظلم، ثم قالوا ” هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه إلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افتري علي الله كذبا” ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم ” وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلي الكهف ينشر لكم ربكم من رحمتة ويهيئ لكم من أمركم مرفقا” أي يترك من بعثهم من إفراط ظلمهم وهو موجب بغضهم، واعتزلتم معبوداتهم غير الله، فإنهم كانوا يعبدونهم صراحة أو في ضمن معبوداتهم، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه فلا يؤذونكم.
يعطيكم الله من رحمته، ويهيئ لكم مما تنتفعون به، ثم قال الله تعالى عنهم “وتري الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه، ذلك من آيات الله من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا” ومعني تزاور أي تميل، فالشمس عند طلوعها تميل عن باب كهفهم جهة اليمين، وإذا غربت هبطت وعدلت عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال، وهم في سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب دون أذى الشمس، ثم قال الله تعالى ” وتحسبهم أيقاظا وهم ركود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا” أي يظن من يراهم أنهم غير نائمين لأن أعينهم مفتحة لا تنطبق لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها.
ويتقلبون في نومهم يمينا وشمالا لئلا تتلف الأرض أجسادهم، وكلبهم مادّ يديه بالباب، وقد شملت بركتهم كلبهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن، ولو نظرت إليهم مع غاية قوتك لامتلأ صدرك خوفا لما ألبسوا من الهيبة، فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم، ثم قال الله تعالى ” وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلي المدينة فلينظر أيها أزكي طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا” أي بعد أن أنمناهم تلك النومة بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا، تذكيرا بقدرة الله سبحانه على الإنامة والبعث جميعا.
وليسأل بعضهم بعضا عن مدة نومهم، ليعتبروا ويستدلوا على عظمة قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقينا ويشكروا ما أنعم الله عليهم وكرموا به، فاختلفوا في مدة نومهم حتى قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، وذلك لأنه كان دخولهم في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ثم أنكروا على بعضهم على بعض وقالوا إن الله أعلم بمدة لبثهم، فقد علموا بإلهام من الله أنهم ناموا مدة طويلة، وأن مقدارها مبهم، فأحالوا تعينها على الله ربهم، فأرسلوا أحدهم متخفيا إلى المدينة حتى لا يراه أحد ليشتري لهم طعاما طيبا دون أن يشعر بهم أحد من الناس.