بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرا بصيرا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، ثم أما بعد إن الإنسان يبذل جهودا واسعة ويضحي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرب إلى الله، إلا أن هذا الجزاء الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأن المؤمن ينال الفردوس دون تعب ومشقة، وكما يجب ملاحظة حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم “ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله” كما يمكن أن تكون عبارة يرثون في الآية السابقة إشارة إلى حصيلة عمل المؤمنين، فهي كالميراث يرثونه في الختام.
وعلى كل حال فإن هذه المنزلة العالية حسب ظاهر الآيات المذكورة فى سورة المؤمنون خاصة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنة الآخرين في منازل أقل أهمية من هؤلاء المؤمنين، ومن صفات عباد الرحمن هي العبادة الخالصة لله عز وجل، فيقول تعالى ” والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما” أى في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء، حرّموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذ من ذلك، حيث ذكر الله والقيام والسجود بين يدي عظمته عز وجل، فيقضون شطرا من الليل في مناجاة المحبوب، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره وباسمه، ورغم أن جملة يبيتون دليل على أنّهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح، لكن المعلوم أن المقصود هو شطر كبير من الليل، وإن كان المقصود هو كل الليل فإن ذلك يكون في بعض الموارد.
كما أن تقديم السجود على القيام بسبب أهميته، وإن كان القيام مقدم على السجود عمليا في حال الصلاة، وأيضا من صفات المؤمنين هو الخوف من العذاب الإلهي، فيقول تعالى ” والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما” أي شديدا ومستديما، فيقول تعالى “إنها ساءت مستقرا ومقاما” ومع أنهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإن قلوبهم أيضا مملوءة بالخوف من المسؤوليات، ذلك الخوف الباعث على القوة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف، ذلك الخوف الذي يوجه الإنسان من داخله كشرطي قوي، فينجز تكاليفه على النحو الأحسن دون أن يكون له آمر ورقيب، في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصرا أمام الله، ومعنى كلمة غرام في الأصل بمعنى المصيبة، والألم الشديد الذي لا يفارق الانسان.
ويطلق الغريم على الشخص الدائن، لأنه يلازم الإنسان دائما من أجل أخذ حقه، وكما يطلق الغرام أيضا على العشق والعلاقة المتوقدة التي تدفع الإنسان بإصرار باتجاه عمل أو شيء آخر، وتطلق هذه الكلمة على جهنم لأن عذابها شديد ودائم لا يزول، ولعل الفرق بين مستقرا ومقاما أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم مقام، ومكان مؤقت للمؤمنين، أي مستقر، وبهذا الترتيب يكون قد أشير إلى كلا الفريقين الذين يردان جهنم، ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء، وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران الحارقة، ومن المحتمل أيضا أن تكون مستقرا ومقاما كلاهما لمعنى واحد، وتأكيد على دوام عقوبات جهنم، وهو صحيح في مقابل الجنة، حيث نقرأ عنها في آخر هذه الآيات نفسها ” خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما”
وفي الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لعباد الرحمن التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصاً في مسألة الإِنفاق، فيقول تعالى ” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” وإن الملفت للإنتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمرا مسلما لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول إن إنفاقهم إنفاق عادل معتدل بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعا، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم، وفي تفسير كلمة الإسراف والإقتار، كنقطتين متقابلتين، للمفسرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد.
وهو أن الإسراف هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، والإِقتار هو أن ينفق أقل من الواجب، ومعنى كلمة قوام وهى على وزن عوام، وهى لغة بمعنى العدل والإِستقامة والحد والوسط بين شيئين، وقوام، أى على وزن كتاب، وهو الشيء الذي يكون أساس القيام والإستقرار.