بقلم / محمـــد الدكـــروري
الثلاثاء الموافق 23 يوليو 2024
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد، لقد مرت منطقة السوق بمراحل مختلفة خلال العهود الإسلامية في طريقة التنظيم والآليات المحددة للتجارة فيه، وما زال موقع السوق موجودا إلى عهدنا الحالي غرب المسجد النبوي، ويحظى بمتابعة مباشرة من قبل أمير المنطقة وتوجيهات سديدة في تأهيل السوق وتنظيمه بشكل مستمر لإتاحته للمستحقين، وتمكين الباعة الجائلين من استخدامه لعرض بضائعهم وفق الضوابط التي تحافظ على طريقة العرض التقليدية للبضائع على مر العصور، ولقد كانت قريش لم تكتفى بالحرب النفسية أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة.
ومن قبل إثارة الفتنة الطائفية في حربها ضد المسلمين، ولم تكتفى بذلك بل إنها بدأت في تنفيذ خطوات أخرى عملية للتضييق على المسلمين، ومنها محاولة التضييق الاقتصادي على المدينة المنورة بالتأثير على القبائل المحيطة بالمدينة، وبالاتصال باليهود الذين يعيشون بداخل المدينة المنورة، لمنعهم من التعامل مع المسلمين، وقد استغلت قريش ما لها من نفوذ وما لها من علاقات مختلفة لتحاصر المسلمين، وتضيق عليهم ولكن سبحان الله العظيم مع خطورة هذا الأمر لم يكن له التأثير الكافي في الدولة الإسلامية، ولكن لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم نزل المدينة المنورة وهو يحسب لهذا الأمر حسابه، ويعلم أنه سيواجه مشكلة الحصار الاقتصادي من قريش للمدينة، ومن ثَم كان صلى الله عليه وسلم يخطط تخطيطا في غاية الروعة.
فلقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلامية، أن الأمة الإسلاميّة لا يمكن أن تبنى إلا على أكتاف أبنائها، وإن الاقتصاد الإسلامي إذا كان معتمدا على الآخرين، فإنه سيصبح اقتصادا هشا ضعيفا لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على اليهود، فإن المدينة المنورة حال هجرة المسلمين إليها لم تكن فقيرة فحسب، بل كان اقتصادها إلى درجة كبيرة جدا في يد اليهود، وكان سوق المدينة الرئيسي هو سوق بني قينقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، وكانت التجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، وحتى كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق، ولكن كان الأخطر من التجارة والسوق والمال هو أن الماء أيضا كان في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الآبار التي يمتلكها اليهود.
وأشهر الآبار بئر رُومة وهو معروف ومشهور، فكان السؤال من المسلمين ماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟ وماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين؟ وماذا لو منعوا الماء عن المسلمين؟ فهذا الموقف لا يحسد عليه أحد، ومن هنا خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمهارة ودقة، وسطر لنا أصولا أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلامي، فلقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم، على توفير الماء المملوك للدولة الإسلامية، وذلك لأن الماء سلعة إستراتيجية، ولا يصلح أن تقوم دولة لا تمتلك الماء لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من يبتاع بئر رومه غفر الله له” رواه احمد والنسائى، وهذه البئر كانت مملوكة ليهودي فابتاعها الصحابى الجليل عثمان بن عفان رضى الله عنه.
ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ابتعتها بكذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم “اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك” فقال اللهم نعم، وكان الصحابى الجليل عثمان بن عفان رضى الله عنه اقتصادي إسلامي كبير، وقد وجه جهده لشراء ما ينفع الأمة، بدلا من التجارة في شيء من الرفاهيات والكماليات، وكان هذا بتوجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث وجهه صلى الله عليه وسلم لشراء السلع الإستراتيجية، التي هي في هذا الموقف الماء، ويظهر في هذا الموقف شيئا في غاية الأهمية، وهو دور التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلامية، ففي هذا الموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئا دنيويا يعوض به عثمان بن عفان رضى الله عنه عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع صلى الله عليه وسلم أن يشتري المسلمون منه الماء لأن المسلمين فقراء.
ومن ثَم فقد حفزه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم “من يبتاع بئر رومه غفر الله له” وفى روايه “فله الجنة” ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان يقينيا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبالجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون أي عائد دنيوي، ولم تكن هذه المشكلة تحل دون تطوع من اقتصادي مسلم غني، يرغب في الدار الآخرة لأن بيت مال المسلمين لم يكن به مال، لذلك كخطوة أولى قبل بناء دولة لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود الذين ستبنى على أكتافهم هذه الدولة، وبهذه الخطوة الجبارة، أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لأمته، وكان بعد ذلك الاستقلالية عن سوق اليهود، وإنشاء السوق الإسلامي الحر المعتمد على نفسه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم علم أن الدولة الإسلامية لا يمكن لها أن تقوم في المدينة، وهي تعتمد على سوق بني قينقاع اليهودي لذلك أمر الصحابة بأن يبحثوا عن مكان مناسب في المدينة المنورة ليصبح سوقا للمسلمين، ويتحكم في تجارته المسلمون، ويدار على شرع المسلمين وقانون المسلمين.