بقلم / د. محمود محمد علي
لا شك في أن الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي لإجراء حوار وطني، تبدو ملهمة، في العديد من الأبعاد، ربما أبرزها تعزيز فكرة تبادل الرؤى بين مختلف الأطياف داخل المجتمع المصري، سواء كانت أحزب سياسية، أو منظمات المجتمع المدني، أو الحقوقيين أو غيرهم، لتكون الخطوة بمثابة حلقة جديدة من سلسلة حوارية طويلة، خاضتها الدولة المصرية، منذ ميلاد “الجمهورية الجديدة” بدءً من الشباب، مرورا بالمرأة، وذوى الهمم، وحتى المواطن العادي، الذي ربما يجد نفسه فجأة أمام رئيس الدولة أو أيا من المسؤولين في مختلف محافظات مصر، في حوار بسيط لعرض ما يعانيه، من تحديات وهموم، وهو ما حدث بالفعل ورصدته الكاميرات في أكثر من مرة أثناء جولات الرئيس في الشوارع.
والواقع أن أهم نقطة يقدمها الحوار هو فتح المجال للنقاش بين التيارات السياسية وبعضها، وليس فقط بين حكومة ومعارضة، حيث يحمل كل تيار تصوراته السياسية والاقتصادية ورؤيته للأولويات بشكل يتناسب مع أسسه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، ونقصد يسارا ويمينا، وإن كان الواقع الاقتصادي العالمي اليوم أسقط الكثير من الحواجز التي تفصل بين الأيديولوجيات المختلفة.
ثم إن التحولات التي شهدها العالم على مدى العقود الأخيرة من ثورات التكنولوجيا والاتصال والمنصات التواصل الاجتماعي، تغير من شكل السلطة وممارستها فى العالم كله، ويفترض أن تضع الأحزاب والتيارات المختلفة هذا كله فى الاعتبار، خاصة أن أساليب القيمة والربح والرأسمالية، ترتبط بالقواعد التقليدية للاقتصاد التي بدأت مع الثورة الصناعية، لكنها تغيرت فى ظل موجة ثالثة أعادت صياغة القواعد ولا تزال، وهى تفاصيل انعكست فى شكل وأداء الأحزاب والتيارات السياسية، فى أوروبا والولايات المتحدة، من حيث طريقة إدارة الخلافات أو التعامل مع القضايا الكبرى.
وحسبما أعلنت الأكاديمية الوطنية للتدريب، وما سيتم من إجراءات لعقد الحوار الوطنى الجامع، وقراءة فيما تقوم به الدولة عموما في تعاملها مع كافة القضايا والملفات، ثم جوهر القصة بأكملها وهى الرغبة في خدمة الوطن مهما كانت التضحيات، وباعتبار أن الجميع على أرضية وطنية واحدة، فإن مخرجات الحوار الوطني ستتوقف على اللحظة التي يدرك فيها الجميع أن التعامل مع الدولة الجديدة، يجب أن يكون بأدوات جديدة، وبلغة خطاب جديدة، وفلسفة جديدة ترفض أكلشيهات الماضي أو ما يمكن تسميته بـ” سلفيين” السياسة، وهم المتمسكون بالعبارات و الاتجاهات التي تعاملوا بها مع أنظمة سابقة، ولا يعلمون أن الدولة الجديدة لديها من المكاشفة والواقعية والمواجهة بالمعلومات، ما لايتوقعه الجميع.
وثمة إدراك عام بأن الدعوة للحوار الوطني بمثابة علامة فارقة بين مرحلتين في عمر الوطن. أما في التفاصيل فهناك تطلعات مختلفة جسدت بدورها مساحة تباين كبيرة حول المحاور الرئيسية للحوار، أولها تعلق بتوصيف الدعوة نفسها، ومن خلال رصد مواقف العديد من الأحزاب السياسية، نجد رؤيتين رئيسيتين؛ الأولى أن الدعوة تمهد لمرحلة جديدة من البناء الديمقراطي وتتيح فرصة كبرى لتصحيح اختلالات سياسية معروفة، وحان وقت التصدي لها بعد أن مرت البلاد بمرحلتين سابقتين، هما مواجهة الإرهاب وتدعيم البنية الأساسية بغرض جذب الاستثمار وتحسين حياة المواطنين، وأنه حان الآن الدخول في المرحلة الثالثة الخاصة بالبناء الديمقراطي وإتاحة المجال العام لكل القوى للعمل تحت مظلة الدستور والقانون.
أما الرؤية الثانية فقد بلورتها بيانات أحزاب سياسية تعتبر نفسها معارضة، بعضها في الداخل، وبعضها في الخارج، وترى الدعوة بمثابة مسعى لاحتواء أزمة متعددة الجوانب يواجهها النظام، ولا يستطيع أن يتصدى لها، وبالتالي فهو مضطر للعمل مع المعارضة، والتي تصف الأمر باعتباره حواراً سياسياً وليس حواراً وطنياً عاماً وشاملاً. وامتداداً لهذا الموقف طرحت أحزاب المعارضة ما وصفته بشروط نجاح الحوار، وأهمها أن يكون الحوار مناصفة بينها وبين السلطة، سواء في اختيار اللجنة المشرفة على الحوار، أو في طريقة التوصل إلى النتائج والتوصيات أو كيفية تطبيقها. وهي رؤية نالت غضباً من قوى متعددة، لأنها لا تستبعد كافة الأحزاب والمؤسسات والنقابات وحسب، بل لأنها تفترض أن أحزاباً ما، وهي محدودة، طرف بذاته يوازي كل أجهزة الدولة ومؤسساتها والأحزاب والمستقلين الممثلين في غرفتي البرلمان. وكأن الحوار الوطني هنا وسيلة لتقاسم السلطة بين نظام ومعارضة، وليس لبناء مرحلة جديدة في العمل السياسي العام.
وفي الأيام الماضية تفاعلت الكثير من القوى السياسية والأهلية مع دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي للحوار والتي لاقت اهتماما من كل الأطراف الجادة، التي تبحث عن دور أكبر للتيارات السياسية، ورأت أن الحوار يؤكد حالة من الحيوية الواضحة فى الإرسال والاستقبال بين الدولة والمجتمع، وتكشف عن إدراك الرئيس والدولة لمطالب كل مرحلة من مراحل التحرك للمستقبل، حيث أصبحت الدولة في موقف يسمح بالمزيد من إدارة التنوع سياسيا ومجتمعيا، بعد هزيمة الإرهاب، والوصول إلى استقرار أمنى واقتصادي لدرجة كبيرة، يمكن أن يكون هناك مجال لرسم تصور للعمل العام بأنواعه، الحزبي والسياسي عموما، ومعه العمل المدني.
ومن ميزات الحوار، أنه سوف يجعل التيارات والخبراء قادرين على قراءة الملفات والتعامل مع الأرقام والقضايا الاقتصادية والاجتماعية، بناء على دراسة، وليس فقط من خلال طرح آراء فردية، قد لا يتوقع صاحبها أن يظهر من يرد عليه، وإذا كانت الدولة تطرح فرصة النقاش حول المستقبل وتوسيع المجال العام، فإن هذا يفتح آفاق التفاهم، ويرتب مسؤولية على أطراف الحوار، يدفعها للاستعداد بشكل يجعلها قادرة على الإقناع، وليس فقط طرح هذه القضايا.
وما يبشر بالخير أيضا، أنه حتى الآن يتم وضع أولويات العمل الوطني والإصلاح السياسي موضع الاهتمام الذى يؤكد صدق نياته من قبل المشاركين من مختلف الأطياف، فرأينا ترحيبا مباشرا دون تردد من قبل الأحزاب وكذلك من قبل عدد من الهيئات والمؤسسات الصحفية والإعلامية والسياسية، فالكل وضع ويضع ورقة عمل للمشاركة في الحوار، بل أن الأجمل أن هناك تطلعا للغالبية العظمى من الشعب والنخبة المصرية للمشاركة من أجل بناء الدولة التى تتسع للجميع فى ظل توافق فى الآراء حول خطة عمل وطني تؤكد هذه المساعي الدؤوبة في بناء جمهوريتنا الجديدة، واستكمال عملية التقدم عبر الانتباه المستمر للملفات الحيوية والقضايا الساخنة برؤى وأفكار مختلفة، وبالاستعانة بجميع الكفاءات والخبرات وتقديم كل مقترح ناجع.
وفى إطار تدشين جمهورية جديدة قائمة على بناء الإنسان والدولة معا تأتى أهمية الحوار الوطني والسياسي الذى دعت إليه القيادة السياسية من أجل مشاركة الجميع فى مواجهة التحديات وصنع مستقبل مشرق لأبناء الوطن، وما أسعدني فى ظل هذه الدعوة هو الحرص على تمكين الشباب من المشاركة الجادة خلال فعاليات الحوار، خاصة أن قضية الشباب تعد من أهم القضايا التي تهتم بها الأمم لأنهم ببساطة شديدة هم صمام الأمان بها وساعدها القوى في التقدم والازدهار والحيوية، وتمكينهم أصبح ضروريا لأن التنمية المنتظرة والنهضة الموعودة لن تكون سوى بعقول شابة تُبدع بحيوية ونشاط فى مؤسسات شاخت وترهلت.
ومن المبشر، ونحن ندعو بأهمية وضرورة الاستعانة بالشباب فى هذا الحوار السياسي المرتقب، أنه قد بزغت بالفعل خيوط حلم تمكين الشباب عندما أعلن الرئيس نهاية عام الشباب 2016 عن تدشين برنامج التأهيل الرئاسى للقيادة، وكذلك إنشاء الأكاديمية الوطنية للتدريب والتأهيل، وكذلك تدشين مبادرة تجمع الشباب الحزبى والمستقل تحت مظلة تنسيقية سياسية لتقديم نموذج للحوار القائم على الأهداف والرؤى المشتركة من أجل تنمية الحياة السياسية فى ظل استراتيجية التنمية المستدامة، ورؤية مصر 2030، خلاف أنه للدولة عدة تجارب نحو تمكين الشباب سياسيا وإداريا خلال السنوات الماضية بداية من الدستور الذى أتاح نسبة للشباب فى الانتخابات البرلمانية والمحلية، ليحصل الشباب على 32% من مقاعد برلمان 2015 و 2020، وكذلك الاستعانة بكثير من الشباب فى مناصب صنع القرار كمحافظين ونوابهم، ونواب وزراء، ومناصب قيادية مهمة فى عدد من الجهات والأجهزة الحكومية.
ولذلك على الجميع إدراك أن دعوة رئيس الجمهورية لحوار وطنى، وكذلك الإجراءات الأخرى التي أعلنت في حفل إفطار الأسرة المصرية، هي إجراءات تؤمن بها الدولة بكل قياداتها، وستعمل على تنفيذها و نجاحها، و قد يكون الشاهد من التعاملات السابقة للدولة مع الملفات، ما يمكن أن نستنبط منه بأنها لن تقف في أي لحظة على موقف أو شخص، بل ستنفذ كل آليات و مجريات الحوار الوطني، وحتى يستفيد كافة المتعلقين والفاعلين في الحياة العامة والسياسية، مع الإدراك بأن ذلك الحوار الوطني هو حوارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وعقد جديد لإدارة توجهات الدولة في الفترة المقبلة، طالما استوعبت توصياته الواقع والإنجازات والتحديات، وطالما استوعب حضوره توابع العمل العام في 12 سنة مضت منذ 25 يناير 2011.
إن الحوار الوطني، فرصة لكل المصريين. فرصة لأن تجدد مصر حيويتها ودمائها بأفكار جديدة نابعة من كل أرجاء المحروسة، وسط تحديات دولية وإقليمية وداخلية.. لكن فى النهاية تظل مصر قادرة على تجاوزها.