الجدار

كتب / د. فرج أحمد فرج
قصة قصيرة

صباح الخير يا ابي .. وهرع اليه مسرعا مقبلا يده
نظر اليه صالح بحنو شديد وربط علي كتفه ومسح بيده علي راسه
خير يا خالد ؟
شكلك كده محتاج شيئ ؟
مدير المدرسة استدعاني واصطحبوني من الصف لمكتبه
تراجع صالح خطوتين للخلف
ونظر لخالد حانقا !
اكيد عملت شيئ؟
ابدا!
هو سالني .. انت ابوك بيشتغل ايه؟
قلت له: نحن مزارعين في ارضنا .
استفسر ابوك ياخالد .. مهندس ديكور .. وفتح سجل امامه واستخرج شهادة عليها اسمك .. تفحصتها بعناية .
هو انت فعلا .. مهندس ديكور ؟
نعم يا خالد
انا خريج كلية الفنون بمصر من قسم الديكور
ولكن لما مات جدك وترك لنا هذه المزرعة .. كان لزاما علينا ان نجد من يرعاها ويهتم بها وهي بسم الله ما شاء الله من اجود المزارع علي الشريط بكرمها وموالحها وزيتونها .
فلم اجد امامي بد ..الا وان اترك الهندسة والديكور
واهتم بأرضنا التي أوصاني عليها جدك
انت زعلان ياخالد ان ابوك بيزرع ويحصد ؟
لا.. يا ابي .. انت احسن انسان في الدنيا ؟
اذا انت بين زملائك .. ابوك مهندس !
عليك ان تكمل امتحاناتك .. كي تصحبني للمزرعة .. الزيتونات حملت بخير وفير هذا العام
ومع بداية الاجازة كان خالد مع والده بالمزرعة علي حواف الجدار العالي .
وسأل ابيه ماهذا الجدار ؟
ها الجدار ياخالد صنعه اليهود عازل بيننا وبينهم
لماذا هو موجود؟
انا اعرف في المدرسة ان الارض كلها ملكنا وبتاعتنا !
اليهود والغرب زرعوهم بيننا
المهم الان نحن علي ارضنا ..وانت بين اشجارها وبساتينها .
في هذه الاثناء .. نادي علي صالح صوت من خلف الجدار السلكي المقوي بالعورض الحديدية ويقال انهم مكهربينه
أبو خالد .. ابو خالد؟
اردف صالح للصوت والتفت .. واذا به يوخيم اليهودي من المستعمرة الملاصقة للجدار ومعه بنته نتاشا .. وهي تقريبا في عمري 10 سنوات .
استحسن يوخيم زرعنا وزيتوننا علي الشجر .. ونبه علي ابي ..!
اعمل حسابك يا صالح محصولك السنة دي عندي .. اسوقه بأعلي الاسعار .
ابتهج صالح!
وانا ارقب بعيني تلك الفتاة ذات القسمات الاوروبية .. فأمها وابوها المان وتشبههم بيضاء وعيونها نوردية خضراء بشعرها الاصفر
رمقتها بعين مخفية ولمحتني وانا ارقبها بأستحسان .
نادي عليا يوخيم .. كيفك يا خالد ؟
زين!
انت بتروح المدرسة
نعم !
هم منصرفا وهو يتمتم بصوت عالي .. سأرسل لك ياصالح السماد واليوريا التي طلبتها .
سألت ابويا .. هم الناس دي يهود
نعم يا خالد .!
لماذا اذا يصنعون هذا الجدار الفاصل بيننا وبينهم ؟
هم ناس .. ونحن ناس !
ولماذا هو يسوق لنا منتجاتنا ؟
ويمدنا بما نلزم من سماد ومواتير رفع المياه ؟
انها المصالح .. يا خالد .
استيقظنا في يوم 7 اكتوبر علي جلبة وحركة وصوت الرصاص والمدافع وجرافة ولوادر متجهة صوب الجدار .. وقامت بهدهه وفتحت به فتحات عريضة للسيارات التيوتا التي عليها مدافع تندفع للداخل صوب مستعمرات الغلاف .
صاح فينا ابي .. علي الجميع ان يلتزم الهدوء .. هذه عملية فدائية من قبل المقاومة .
صحت .. يا ابي اخيرا هدم الجدار امامنا وساندفع مع المندفعين لعبوره للداخل لمستعمرات اليهود مع المقاوميين
نادي عليا ابي .. عود ياخالد ؟
ولكنني اندفعت في فرح وبهجة غامرة انني شاهدت هذا الجدار مكسورا واصبحنا نستطيع العبور منه لداخل ارضنا المغتصبة وظللت اجري مع الحشود الزاحفة مهللين ومكبرين .
والمقاومين باسلحتهم يقومون بالقنص والقتل لليهود المسلحين .وحينما استشعرت بالخطر .. عدت وعلي حافة الجدار .. لقيني والدي .. وجذبني من كتفي .. تعالي يا مجنون !
وامسكني من رسغي بشدة وهرع بي للداخل وما هي الا.. وساعات قليلة في الليل ..قد عرفنا ما قام به المقاوميين وما احدثوه في صفوف الكيان الصهيوني من المفاجأة واثرها .
جلس ابي مهموما علي كرسي بمقربة من الباب ممسكا بعصاة غليظة .
نظرت له .. لماذا؟
تمسك بعصا ولم تندفع مع المندفعين المقاومين وبيدك رشاش او مدفع
يا خالد!
هذا عمل المقاومين ومدربين عليه .
اما نحن فواجبنا ان نصمد علي ارضنا ندافع ونحميها ولا نفرط فيها ولا في اي دونم منها .. وكما تركها جدك لنا .. نسلمها لكم .
وفي الليل بدء العدو الاغارة علينا بالطائرات وأنهالت القنابل علينا وبالقرب منا وتحركت الياته ودبابالته مخترقة الجدار لصوب ارضنا والاراضي المتاخمة لنا وما كان منا الا.. والتزمنا بيوتنا .
ابي يحتضنا ويهدأ من روعنا وامي تتسأل وهي تحمل وليدها بين زراعيها واختي الصغيرة ممسكة بتلبيبها .
أ خذني ابي علي جنبا بعيدا عن امي .. وهمس لي مهما سيحدث يا خالد لن نترك ارضنا ومهما حدث واجبرت علي الخروج .. كن علي يقين ان تعود لها مرة ثانية
لماذا هذا الكلام يا ابي ؟
اعلم ما سيحدث .. سيبطش بنا اليهود ولن يمر هذا الامر لديهم .. لانه امر جلل وليس بالهين ما حدث !
فاجأته .. وهل يوخيم وابنته سيحاربوننا مع اليهود؟
نعم .. واين ذهبت المصالح ؟
انها غريزة البقاء كما افهموهم !
فلن يكون مقابله .. المصالح!
ولكنه كان يبدي صداقته ووده لك !
عندما كانت هناك .. مصالح
وفي الليل اقتحم الجيش منازلنا والمربع بالكامل يبحثون ويفتشون عن الاسلحة والمقاوميين .
انصرفوا بعد ان لم يجدوا شيئا !
ولم تمضي اياما الا..والقي علينا المنشورات وعبر مكبرات الصوت ان نرحل ونترك منازلنا للجنوب والا تعرضنا للقتل والموت وهدم بيوتنا !
وفي لحظة استشعر فيها ابي هدوءا وامنا .. ذهب للمزرعة يطل عليها ويتلمس ما اصابها من تجريف .
محذرا امي الا تفتح الباب لاحد .. وانه ذاهب لجلب جيركن ماء من البير .
ولكنه لم يعود!
ومرت الايام لغيابه .. البعض يقولون انه التحق بالمقاومين والبعض يقول ان اليهود قتلوه ..وارجح اخر انهم خطفوه .
واصبحنا حياري للحقيقة !
اتذكر كلمات ابوي قبل ان يخرج للمزرعة .. انت الان ياخالد رجل البيت .. ودير بالك لامك واختاك
ارد عليه .. لا توصي حريص !
ضرب علينا الحصار اياما واغلق عنا اليهود الكهرباء والماء والمخابز.. كنت اتسرسب بين حوائط الجدران القائمة حتي اصل للمخبز الوحيد لساعات كي اجلب كام خبزيات من فرن فايز
واقف في طابور ماء خزان ابو عمار بالساعات كي احصل علي جيركن ماء صغير
تصنع منه امي حليب للصغيرة .
بثينة اختي ذات الثلاث اعوام دائما ما تتعلق بي حينما اخرج متسللا لجلب الخبز او الماء ملتزما الحوائط والارصفة وابتعد عن عرض الطريق .
وفي ليلة حلكاء ..انقطعت عنا الكهرباء وأرهفنا نتلمس الاخبار .. سمعنا صوت الازيز من الزنانات تحلق فوق بيوتنا .. ثم اطلقت القنابل المضيئة فوقنا ..فأنارت المكان والمربع كانه الظهر .
تلتها صوت الطائرات تحوم فوقنا في اصوات مخيفة .. جعلتنا ننكمش في اماكنا بلا حراك .وامي من الخوف اخذتنا في حضنها وامسكت بنا نجري صوب الباب ,
ولكن الي اين نذهب؟
كانت الصغيرة تصرخ وتبكي بشدة وامي تغدو أيابا ورواحا في كل ارجاء البيت وسط الظلام كي تجلب شربة ماء لنا وللصغيرة .. تهدءها وتسكتها من صراخها بعد ان ضنت علينا الحياة بقطرة حليب او كسرة خبز .
لم تجد الماء . . فصرخت فيا .. الم تحضر ماء اليوم ؟
جيركن الماء يا خالد ؟
لقد نفذ الماء يا امي !
ظلت تصرخ .. لا حيلة لها وهي تحتضنا بشدة وتهمس بصوت انين متحشرج في اذني .
مهما حدث يا بني .. نحن الان في رعاية الله .. ويشاهدنا الان ويعلم حالنا .. فلا تخف .
واعلم ابيك ما غاب الا .. ولانه شجاع وكما وصاك لا تترك ارضك وارض ابوك وجدودك مهما حدث .
وقبيل الفجر
لم ننم من شدة الخوف .. ننادي امي والصغيرة تبكي .. اريد الماء
تبحث عن قطرة ماء بعد ان اغلقته قوي الشيطان عنا .. فلم تجده .
تجلس جوارنا تبكي وتشتكي لرب الوجود ان يستمطر السماء .. او تجد ملاذا او ركنا نأوي اليه وهي تحمل طفلتها الوليدة لتهم بالخروج بحثا عن كسرة خبز او سرسوب ماء .
بعد سماعنا صوت انفجارات مروعة واهتزت الجدران وسمعنا اصوات الناس التي تتعالي وصراخهم من دور الجيران ..
لم تحمنا الجدران .. امي كان لديها يقين ان الدور سيصيبنا طالما قصدوا المربع باكمله حملت الصغيرة وما فتأت للخروج تحمل الصغيرة علي كتفها ودسرتها بشال ابيض ..وصرخت فيا خذ بثينة واخرج حالا وما لبثنا علي مقربة من الباب .. الا وسقطت قنبلة زنة طن من المتفجرات اهدتها الة الحرب والدمار في العالم امريكا والغرب الشريرالا وانهالت علينا قنبلة اطاحت بنا لتدفن البيت بمن فيه وسكت صراخ الطفله وابتهال امي لرب العالمين بعد ان جعلته جزازا تحت الارض ب 20 متر .
انهدل علينا السقف والحيطان وتناثرت الاشياء والزجاج وانا بيدي اختي بثينة منكفأ علي الارض و في حضني نائما فوقها ويدي علي راسي من هول الانفجار .
من تحت الركام .. كنت انادي علي امي .. كنت اسمع انينها وصوتها ولكن التراب قد حشر في حلوقنا ولم نستطيع الحراك من ثقل ما فوقنا .
ظلتت انادي عليها .. الي ان اختفي صوتها تماما .
مع ضوء الفجر ما تبقي علي قيد الحياة في مربعنا من الرجال والشباب ينبشون وسط الصخر والركام .. وينادون .. هل يوجد احد؟
كنت تحت كمرة عريضة من الخرسانة وما لبثت الحركة قليلا .. احسست ان بثينة تحتي تصرخ وتنادي امي وقد غطانا التراب والركام
ظللت انادي علي احد ينقذنا ..
سمعنا شاب .. فهرع معه جمع كبير يزيلون الحجارة والتراب بايديهم وينادون عليا .
يسالوني هل تسمعنا ..
نعم ولكني لا استطيع الحراك ..
اجتهد الجميع في ازاحة الحجارة حتي وصلوا لمتسع لظهوري
معي اختي ..
يقولون هل تستطيع ان تزيح ما حولها وتحركها .. كي نستطيع التقاطها
ساحاول .
وبجهد جهيد تمكنت ان احررها .. فمدوا ايديهم والتقفوها .. ثم بدات في الزحف حتي خرجت راسي من تحت الكمرة امسكوني من كتفاي وسحبوني للخارج .
هل هناك احد قريب منك ؟
امي!
كنت اسمع صوتها الي ان اختفي .. قال احدهم بعد ان ازال التراب عن وجهي .
هذا خالد .. ولد صالح
لا حول ولا قوة الا بالله ؟
اين امك يا خالد ؟
ما ادري ؟
هي تحت الركام والتراب وظللت انبش معهم وانادي امي
لم تجب ؟
ربط احدهم علي كتفي وانا اصرخ .. ابي بالامس .. واليوم امي وصغيرتي
يبكي المراسل من بعيد وكاميرة المصور تتابعه لتصور حجم الدمار الذي لحق بالمربع بالكامل ومن بقي من البشر ينتشلون بقايا الجثث للاطفال والنساء والشيوخ وهو يحمل طفلة لم تتجاوز العام بين يديه ويصرخ .. بأي ذنب قتلوا !
هم شهداء يا خالد !
ظللت اصرخ واغدوا في كل مكان .. ابي ابي
ولوعة الفراق تهدني
جاء صوت المكبر محذرا لنا
ان نتحرك ونهم بالخروج
والتوجه للجنوب .. دون حمل اية شيء
كانت بثينة اختي في حالة رثة ومزرية فهي صغيرة لا تقوي علي حالها في السير او الحركة .
انصاع الجمع .. رافعا يده علي راسه امام فوهات الدبابات يتحركون صوب الجنوب .
كل يلوذ بروحه .. فارا بحياته .. مستقلا ما تيسر له .
لم اجد حولي اي فرد .. فكل مشغول بحاله وبنفسه وذويه
وانا لم يتبقي لي غير اختي بنت الثلاث سنوات
امسكتها من يدها اجرها خلف الركب والمترجلين كي لا ابتعد عنهم واصبح وحيدا امام ضعف الصغيرة وقلة حيلتها وهي تبكي وتنادي .. ابي .. ماما
كان همي الا ابتعد واضل الطريق واربط مصيري بمصيرهم
لم اجد وسيلة غير ان احمل اختي الصغيرة علي ظهري واسرع بها الخطي هربا من الجحيم .. تاركا خلفي مربعنا السكني الذي اصبح ركاما ورمادا واحتسبت امي والوليدة عند الله وابي الغائب عند حدود الجدار
وكلماته ترن في اذني .. لا تتركها .. مهما حدث .. وعود !
لا رضنا وارض اجدادك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.