التوبة ورد المظالم والتسامح في الحقوق


د.عبدالله بن معيوف الجعيد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد.
فإن من رحمة الله بعباده المؤمنين أن شرع لهم التوبة إذا ما اقترفوا ذنبًا، والله عز وجل حليمٌ كريم، يقبل من عباده التوبة إذا ما بادروا إليها وصدقوا في ندمهم على ما اقترفته أيديهم، وقد أمر الله عباده بالتوبة ورغبهم فيما عنده من الرحمة والمغفرة، فقال تبارك وتعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جميعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)، وبين أنه يقبل التوبة من عباده، وأنه يغفر الذنوب جميعا، فقال جل من قائل: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)، وقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قال جل وعلا: وهي آيات فيها من الخير الكثير لمن أدرك خطأه وبادر بالتوبة والإقلاع عما اقترفه من الذنوب، فمن تاب فإن الله عز وجل يقبل توبته ويمحو عنه ما اقترف من الذنوب فضلًا وإحسانًا منه سبحانه.
أما إن كانت معاصي العبد فيها ظلمٌ للناس وانتهاك لحقوقهم فإنه لا تصح التوبة منه إلا برفع الظلم عن المظلوم، ورد الحق إلى صاحبه والخروج عنه – عينا كان أو غيره – إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه – عرفه بعينه أو لم يعرفه – فذلك صحيح، وعلى كل ظالم أن يتحلل من المظلمة قبل فوات الأوان ففي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من كَانَت عِنْده مظْلمَة لِأَخِيهِ من عرض أَو من شَيْء فليتحلله مِنْهُ الْيَوْم من قبل أَن لَا يكون دِينَار وَلَا دِرْهَم إِن كَانَ لَهُ عمل صَالح أَخذ مِنْهُ بِقدر مظلمته وَإِن لم تكن لَهُ حَسَنَات أَخذ من سيئات صَاحبه فَحمل عَلَيْهِ)
والذنوب في حقوق الناس على درجة عالية من الخطورة، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطورتها ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله: (أَتَدْرُونَ من الْمُفْلِسُ؟)، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى ما عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).
ومن يتأمل هذا الحديث يدرك أن حقوق الناس أمرٌ لا تهاون فيه، فإذا أتى العبد يوم القيامة مؤديًا لأركان الإسلام من صلاةٍ وصيامٍ وزكاة، وحسناتٍ كثيراتٍ كالجبال يعتقد أنها تنجيه من العذاب وتدخله الجنة، وواجهته المظالم في حقوق الناس التي لم يتحلل منها في الدنيا، فقد خاب وخسر وأفلس وأورد نفسه المهالك ولم يدرِ، قد خاب من حمل ظلمًا في هذا اليوم العظيم الذي يعيد الله فيه المظالم إلى أهلها، فإذا ما أتاه خصومه وطلبوا من الله أن يعيد إليهم حقوقهم منه فيأخذوا من حسناته ويطرح عليه من سيئاتهم حتى تذهب ما جاء به من الحسنات والأعمال الصالحة ويخف ميزانه حتى يُطرح في النار.
لذلك، فإن على العاقل أن يحرص على ألا يقترب من حقوق العباد وألا يظلمهم في الدنيا، وإذا بدر منه شيءٌ من ذلك فليبادر إلى التحلل منه بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان قد يئس أن تُعبد الأصنام في أرض العرب؛ ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك؛ بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة، اتقوا الظلم ما استطعتم، فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستُنجيه، فما زال عبد يقول: يا رب، ظلمني عبدك مظلمة، فيقول: امحوا من حسناته، وما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب، وإن مثل ذلك كَسَفْرٍ نزلوا بفلاةٍ من الأرض ليس معهم حطب، فتفرَّق القوم ليحتطبوا، فلم يلبثوا أن حطبوا، فأعظموا النار، وطبخوا ما أرادوا، وكذلك الذنوب).
وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث مختلف فيه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: (يُحْسَبُ ما خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ كَفَافًا، لا لَكَ وَلا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ، قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ؟ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ)، وفي هذا الحديث بيانٌ لمن في علاقته مع غيره من الناس الكثير من المشاكل والخلافات، فإن خاف أن يقع منه ظلمٌ لهم فليقطع أسبابه، وسبل الوقوع فيه لعله ينجو ويسلم.
وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من إيذاء الناس وظلمهم والنهي عنه، فقد أمر المجاهدين أن يتجنبوا إيذاء الناس، وحذرهم من أن ذلك قد ينقص من أجورهم وقد يؤدي إلى بطلان جهادهم، فقد رُوي عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا يُنادي في الناس أن: (من ضيَّق منزلًا أو قطع طريقًا فلا جهاد له)، وهذا يدل على أن لحقوق الناس منزلة عظيمة، وأثرا كبير على أعمال العبد، وأنها لا تضيع، بل يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، وهذ ما يوجب الحذر من إيذاء الناس والاعتداء على حقوقهم، وأن يعمل المرء على التحلل من المظالم قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه درهمٌ ولا دينار.
ولذلك فإنه يجب على المؤمن أن يحرص على السلامة والبراءة من حقوق الناس، إما بتأديتها إن كانت ماديةً كالظلم في المال أو الميراث وإما أن يتحلل منها كالغيبة والنميمة وغيرها من الذنوب التي تتعلق بحقوق الناس، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أسرع في التحلل من ظلم أخيه قبل أن يأخذ من حسناته يوم القيامة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أو مَالٍ، فَجَاءَهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، حَمَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، لكن إذا علم المرء أو غلب على ظنه أنه يترتب شر وفتنة على إخباره أخاه بسوء صدر منه في حقه فلا يخبره، بل ليكثر من الاستغفار والدعاء له، وليكثر من ذكر محاسنه التي يعلمها عنه حيث ذكره بسوء، لعل ذكره لمحاسنه يمحو ما ذكره عنه من السوء.
وينبغي للمسلم أن يكون سمحا حسن الخلق يعفو ويصفح عمن ظلمه، وعمن قصر في حقه، ويقبل العذر ابتغاء رضوان الله، وائتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداء بخيار سلف الأمة فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي اللهُ عنهما واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (…ولا يَدفَعُ السيئةَ بالسيئةِ، ولكن يعفو ويَصفَحُ)، والمسامح كريم كما تقول العامة، وهو منصور عزيز، وفي حديث حسنه بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: ” يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً “، وحكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق، جلس يوما لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى، أين عمرو بن جرموز؟ وهو الذي قتل أباه الزبير، فقيل له: (أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أوَ يظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله؟ فليظهر آمنًا ليأخذ عطاءه موفرًا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.