د. محمود محمد علي
عندما ننزل مخطوطات التاريخ من على الأرفف ، وننفض الغبار عنها ، نرى ونقرأ على صفحاتها أن الانهيار الأخلاقي والانحلال المجتمعي ، كان دائما بمثابة ناقوس الخطر ، والذي يدق معلنا انهيار الحضارة بأكملها ، وإن مظاهر التعري والزنا والشذوذ كانت دائما علامات ضعف لا قوة .. انهيار لا بناء .. تحلف لا حضارة.. رجعية لا تطور .. كل الحضارات السابقة اتخذت مجموعة من القيم ، فحواها الصدق والأمانة والإخلاص والعفة والحياء لترتكز عليها منطلقا لنهضتها والتي صبت محور اهتمامها لرفع قيمة الفرد إلى ما فوق نزعة الغرائز والشهوات ليرقى بذلك نور الملكوت وتشريف الخالق .
إن كل ما يغرس في أذهان شبابنا اليوم تحت مفاهيم طنانة وبراقة مختلفة ما هو إلا إطلال كبير وتشويه لعين أعظم المفاهيم الإنسانية .. إن التحرر كان دائما مطلبا وغاية الإنسان ، هدفه الأساسي ، إحلال العدالة ، في الأرض، وإطلاق العنان للإبداع نحو السماء ، ولم يكن يوما مدخلا رديئا للانحلال ، بل سبيلا للرفعة والكرامة ، فتنبهوا بذلك يا أبناء جلدتي ،ووعوا ما يسمونكم من ضلال وانهضوا من سبات الغفلة لعلكم تدركون مجدكم القديم .
إن الصين بجبروتها وعظمتها الاقتصادية تداركت أهمية الحفاظ على ، ولجم الانحلال الأحلاقي الحاصل ، وذلك كي تحافظ على وجودها ، ولهذا فهمت الصين أن ما يسعى إليه الغرب اليوم من نشر للعهر والفجور عبر محطاته ووسائله المأجورة تحت مسميات ” التحرر” ، و” التطور” ، ما هو إلا سم مدسوس بالعسل ، إذ هدفه الوحيد حل أسس الأمم التي نعيش فيها ، وتفريغها من محتواها حتى تصبح لقمة سائغة أمامهم ، عير أقوى وأخطر الوسائل الممكنة .
لقد أضحى واضحا التوجهات الاستعمارية والنوايا التوسعية في ظل هجمة الغرب الثقافية الشرسة للقرن الواحد والعشرين ، مع اختلاف أدوات الغزو والسيطرة ، فسابقا كانوا يحتاجون إلى سفن وطائرات وجيوش ومعدات ؛ أما الآن فلم يكلفهم ذلك سوي كبس الذر حتى يستعبدونك في بيتك ، وبين أهلك ، وجيرانك ، ويغزونك بأطنان من الأفكار والأجندات ، حتى تصبح مخدر الدماغ ، لزج القوام ، بلا مقاومة بين أيديهم ، فيصيروك كما يشاءون هم لا أنت ، فبحسب آخر دراسات قام بها جامعة ويسترن بالتعاون مع جامعة هارفرد الملكية في لندن مع جامعة أكسفورد وجامعة مانشستر التي نشرها في مجلة الطب النفسي العالمي ، وفق موقع ” هارل بركسس ” الألماني ، طُلب من مئات المشاركين القيام باختبارات مختلفة للذاكرة ، بالإضافة على تمارين إدراكية .
وقد خلصت الدراسة على أن الإنترنت يغير بنية وقدرات العقل البشري ، فالذين يقضون ساعات طويلة على الإنترنت والشوسيال ميديا ، لديهم تغييرات مزمنة وحادة في مجالات الذاكرة ومستويات الإدراك والسؤال الآن ماذا يحدث إثر ذلك ؟
والإجابة كما يرى الدكتور مأمون تتفتت الأمم وتتخدر الشعوب وتغرق السفينة ، وهنا يبدأ الانهيار الأخلاقي ، وهنا يقول ألبرت تشنتتز Albert Scwhitzer في كتابه ” فلسفة الحضارة” : إن الحضارة هي الأخلاق “، وفي نفس السياق أحمد شوقي : إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا” ، وكما باتريك جوزيف في كتابه ” موت الغرب” : ما يعتقده الناس من صواب وخطأ ، يمكن أن يتحدد بالكيفية التي يعيشون فيها حياتهم “.
وحتى وقت متأخر من خمسينات القرن الماضي كان الطلاق في أوروبا وأمريكا ، يعد فضيحة وكان العيش بلا زواج مع بعضهم يوصف بكيفية عيش القمامة البيضاء ، وكان الاجهاض مقرفا ، واللواط أو الشذوذ هو الحب الذي لا يجرؤ أحد على النطق به ، وفي جزء آخر ،م ع انتشار الزنا الغير منضبط والطلاق على نطاق واسع ، وانفجار الكتابة العارية ،و التعاري اللباسي ، وشيوع فلسفة الانحلال والعبث في التيار العام ، وكيف الفتيات في العشرية الثانية يرمين مواليدهن الجدد في حاويات القمامة ،ووسط الجلي .. هذا المشاهد تذكرنا بالعالم القديم ، وروما الوثنية ، حيث يترك المواليد الغير مرغوب بهم على الثلج لتموت .
ولكن ما الذي يمكنه أن يأتي لاحقاً؟ ما الذي يمكن لسايريس أو غيرها من هؤلاء النسوة فعله أكثر من هذا للفت الأنظار؟ ما الذي يمكن أن تستعمله ثقافة مثل هذه لتحقيق ضجة كبيرة في المستقبل؟ لقد فتحنا هذا الظرف بشكل تجاوز ما كنا نرى بأنها حدود المقبول بالمجتمع، ما الذي بقي؟
قد تخطر ببالهم أفكار أخرى، فهنالك برامج “للصدمات الكبرى” تحاول أن تجد طريقة تظهر فيها كيف يموت شخص تدريجياً، ولن نستغرب بأن يقدم نجوم على مثل هذه البرامج، إذ أصبح الكشف عن فضيحة جنسية بشريط مصور أمراً عادياً، أو رغبتهم بأن يفضحوا خلال ممارستهم الجنس، أو قد نكبر يوماً ونتحول إلى أوروبيين في منطقنا ونظرتنا للأمور، ويمكننا أن نقدم ردة فعل مغايرة لتلك التي يمكنها أن تصدر عن شباب في مرحلة المراهقة عند رؤية ثدي امرأة، وقد نتعلم بأن سقوطنا في قاع الحضارات يمكن أن يكشف عن قاع أعمق، وهذا كله يتمثل بنظرتنا إلى الأمور، وفي جميع الأحوال فإن الكثير من النجوم يعملون بجد ليظهروا بشكل مشين، لكن النتيجة في الوقت ذاته لن تجدي نفعاً بل ستظل في الحضيض.
كل ما سبق ما هو إلا عيض من فيض عن عالم الانهيار الحضاري الذين عيشه في يومنا هذا ، وكيف تسقط مجتمعاتنا تباعا لفخ التحرر الغربي الذي يواصل النهش بتعايمنا وقيمنا وعاداتنا بلا هوادة .