بقلم / محمـــد الدكـــروري
الإثنين الموافق 23 سبتمبر 2024
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصا حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد فاتقوا الله عباد الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ثم أما بعد لقد سئل الشيخ ابن باز عن إستقبال المعزين والجلوس للتعزية، فقال ” لا أعلم بأسا فيمن نزلت به مصيبة بموت قريب أو زوجة ونحو ذلك أن يستقبل المعزين في بيته في الوقت المناسب لأن التعزية سنة وإستقبال المعزين مما يعينهم على أداء السنة وإذا أكرمهم بالقهوة، أو الشاي أو الطيب، فكل ذلك حسن “
وقال الشيخ صالح آل الشيخ ” والذي رأيناه من علمائنا في هذا البلد وفي غيره حتى علماء الدعوة من قبل أنهم كانوا يجلسون لأنه لا تكون المصلحة إلا بذلك، إذا فات ذلك فاتت سنة التعزية ” وحتى على القول بالكراهة فإن الكراهة تزول عند وجود الحاجة كما هو معلوم عند العلماء ولا شك أن الجلوس للتعزية تشتد لها الحاجة في هذا الزمن لما فيها من تيسير على المعزين ورفع للحرج عنهم، فقد يكون أبناء الميت وأقاربه في أصقاع مختلفة أو في نواحي متباعدة داخل المدينة الواحدة مما يصعب فيه على من أراد التعزية التنقل بينهم، وقد علل بهذا التعليل الشيخ عبد العزيز بن باز حينما سئل عن حكم الجلوس للتعزية، فأجاب بالجواز قائلا ” إذا جلسوا حتى يعزيهم الناس فلا حرج إن شاء الله حتى لا يتعبوا الناس، لكن من دون أن يصنعوا للناس وليمة ” وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي ” كان السلف يمنعون ذلك.
وكان الإمام مالك رحمة الله عليه يشدد في ذلك كثيرا ويمنع منه، وعلى ذلك درج فعل السلف لكن أفتى المتأخرون من العلماء والفقهاء أنه لا حرج في هذه العصور المتأخرة، والسبب في ذلك هو أن العصور المتقدمة كان الناس قليلين ويمكنك أن ترى آل الميت في المسجد وأن تراهم في الطريق وأن تراهم في السابلة وتعزي وكان الأمر رفقا، بل قل أن يموت ميت إلا وعلم أهل القرية كلهم وشهدوا دفنه، فكان العزاء يسيرا، لكن في هذه الأزمنة اتسع العمران وصعب عليك أن تذهب لكل قريب في بيته، ويحصل بذلك من المشقة ما الله به عليم وفيه عناء لذلك لو إجتمعوا في بيت قريب منهم كان أرفق بالناس وأرفق بهم، وأدعى لحصول المقصود من تعزية الجميع والجبر بخواطر الجميع ولذلك أفتوا بأنه لا حرج -في هذه الحالة من جلوسهم ولا يعتبر هذا من النياحة، بل إنه مشروع لوجود الحاجة له ” وكثير من العلماء إنما أنكر الإجتماع لما يحدث فيه غالبا من البدع والمنكرات.
وأما مع الخلو من ذلك فلا حرج فيه، وقال شمس الدين المنبجي الحنبلي ” إن كان الإجتماع فيه موعظة للمعزّى بالصبر والرضا وحصل له من الهيئة الإجتماعية تسلية بتذاكرهم آيات الصبر، وأحاديث الصبر والرضا، فلا بأس بالإجتماع على هذه الصفة، فإن التعزية سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن على غير الصفة التي تفعل في زماننا من الجلوس على الهيئة المعروفة اليوم، لقراءة القرآن تارة عند القبر في الغالب، وتارة في بيت الميت، وتارة في المجامع الكبار، فهذا بدعة محدثة، كرهها السلف ” والخلاصة أن مسألة الجلوس الخالي من المنكر وتهييج الأحزان مسألة دار فيها الخلاف وهي محل نظر، والأمر فيها واسع وأما مع وجود المنكرات والبدع فممنوعة، وأما مع الخلو منها فأدلة القول الثاني وهو القول بالجواز أصح إسنادا، وأظهر دلالة، وأما أدلة المنع فهي آثار ضعيفة، ليس منها شيء صريح الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
كما أن دلالتها محتملة، إذ يبدو أن المنع فيها ليس عن الجلوس للتعزية المجردة، بل عن تكلف أهل الميت للناس بصنع الطعام وقد جاءهم ما يشغلهم بالمصيبة، ثم لا يخفى أن القول بالجواز هو الأقرب إلى اليسر ورفع الحرج، وخاصة مع إختلاف الزمان وتنوع مشاغل الناس مما إضطرهم إلى إتخاذ بعض الأعراف التي تساعدهم على تنظيم أمور حياتهم ومنها إجتماع أهل الميت لتلقي مواساة الناس وتعزيتهم في بداية هذه المصيبة، فلا يضطر المعزون إلى التفتيش عن أهل المتوفى واحدا واحدا في أماكن عملهم أو مساجدهم أو حتى بيوتهم ولا يلجؤون إلى ترك أعمالهم أياما كثيرة لإدراك ذلك مع بعد المسافات وإختلاف الظروف والأوقات، فلو لم يكن في القول بالجواز إلا رفع المشقة والحرج عن الناس لكان كافيا في ترجيحه فكيف وقد عضدته الأدلة الصريحة الصحيحة.