حسن ونعيمة.. نموذج الحب والدموع


د. محمود محمد علي

كم من عاشقٍ قُتل باسم العادات والتقاليد؟! فمِن “قيس” الذي رفضتْه ليلى احترامًا لأعراف القبيلة فمات قَهرًا على فِراقها، إلى «حسن» – هذا المغنواتي التَّعِس – الذي عصَف بقلبه حُبُّ «نعيمة» بنت الفلاح الثَّري، الذي رفض أن يتنازل عن كبريائه ويَقبل أن تتزوَّج ابنته من وضيع النسب والشرف “حسن المغنواتي”، لكنَّ الحبيبَين لم يَقبلا أن يَستسلما للواقع؛ فأقدمتْ نعيمة على حماقةٍ لا تَغفرُها أعراف القرية، وكان رأس «حسن» هو المقابل الذي ارتضتْه أُسرتُها. تُجسِّد القصة الشعبية التقاليد والأعراف الموجودة بالقرية المصرية، وكيف يمكن أن يكون الحب نقمة؛ ﻓ “مِن الحب ما قَتل”.
حسن ونعيمة ليست قصة حب عميقة وعنيفة فقط، بل هى قصة حياة تجلت بكل صورها، القبيح منها والجميل داخل تفاصيل العلاقة بين المغنواتى »حسن« وربة الصون والعفاف الجميلة «نعيمة»، بين كل موال وموال، وبين كل همسة وغمزة من عين «حسن» قاصدا بها قلب «نعيمة» ستعثر على ما تريده، جرعة رومانسية كافية لأن تطوف بخيالك جنة الله فى سماواته، وعشوائية مجتمع يحكمه تخلفه ويدفعك دفعا لأن تفكر مرات فى تدميره ونسفه، حتى تضمن حياة هادئة لكل حسن ونعيمة سيأتون فى المستقبل.
وقصة حب حسن ونعيمة هي ثنائي البديل الشعبي لأسطورة “روميو وجولييت”، لكنها ليس قصة حب عميقة وعنيفة فقط لكن هي من افضل قصص الحب التي يتكلم عنها الكثير التي رصدت لنا جميع الصور القبيحة منها والجميل ايضا، من قلب تفاصيل العلاقة التي دارت بين المغنواتي “حسن” والفتاة الجميلة “نعيمة”.
وهنا غني لها محمد طه قائلا: “أصل القضية بنية حلوة ونعيمة، وأهلها أغنياء بالمال ونعيمة، لكن الهوى لو هوى في بحر نعيمة، الحب خلى الغزالة اتعلقت بالنمس، وفاتت الأهل، لساك تقول المبادئ تتبلي بالنمس، (حسن) المغني كان يغنى فن وليالي، ويندعي بالطلب لأفراح وليالي، ودعوه في ليلة وكانت حظ وليالي، في منشية أبو حنبل أول أسوان المنيا مركز بني مزار، راح الجدع راح وقصده يبلغ المنية، والخلق دنيا تقول ياعين ياليالي غنى الكروان، وألحان الندم شبابية، طلعوا البنات في العلالي وفتحوا الشبابيك، قالت (نعيمة) غرامي يا (حسن)، شبابيك بعتت له منديل، وأسباب الغرام منديل والحب لجله اتصل واللي حصل منديل وفي قلته ياليل فين نار الغرام شبابيك”.
والنقطة الرئيسية في قصة حسن ونعيمة انها دارت أحداثها في قرية بسيطة ريفية في الصعيد، حيث كان “حسن” يعمل مغنواتي في الأفراح ونعيمة تختلف عنه تماما من حيث المستوى، ولكن تكون البطولة والتشابه بينهما هو الحب القوي التي ربط مابنهم بكل صدق.
وتدور أحداث الحكاية الشعبية عن حب “حسن” لنعيمة، وهو الشاب الفقير المغنى الشعبي فى الأفراح والموالد بصعيد مصر، فيرى البطلة “نعيمة” الفتاة الصغيرة الجميلة الأبنة الوحيدة “للحاج متولي” صاحب الأموال والأراضي وعين أعيان قريته، في إحدى الأفراح في قرية نعيمة “بني مزار”، بالمنيا فتًصيب سهام الحب قلبيهما فيقعا فى الحب، ثم يأتى المغنى المحبوب لدى الناس إلى والد نعيمة طالباً يدها فيرفض الأب معللاً رفضة بأن أبنته نعيمة موعودة لأبن عمها “عطوة” فيرفضا الحبيبان قرار الأب الذى أبى إلا أن يحول بينهما ويقرارا الزواج سراً رغم معارضة الأب فتفر نعيمة ليلاً من بيت والدها إلى بيت الحبيب “حسن المغنواتى” ليتزوجا وتقيم معه فى بيته مع والدته.
وفى صباح اليوم التالى يكتشف الأب أمر ابنته فيذهب لقرية حسن المغنواتى لإعادة أبنته إلى بيتها وقريتها بالقوة لكن «حسن» يتصدى له، مما أضطر الأب إلى مهادنة حسن ووعده بموافتة على الزواج بابنته شريطة أن يعود بها إلى القرية حفاظاً على شرفه وكرامته، ثم يأتي ليطلب يدها من عائلتها، فيصدقه حسن ويوافق على تسليم نعيمة لوالداها الذى تعهد بإتمام هذا الزواج فتذهب نعيمة مع والدها وهى تعلم أنها قد فقدت حبيبها، ويٌنزل بها أباها أشد العقاب ويَضربها ضرباً مبرحاً عقاباً لها على فعلتها المشينة، ثم يكيد الوالد لحسن ويمكر به انتقاما لشرفه فيقوم باستدراجه إلى القرية ليكون عطوة ابن العم في انتظاره لقتله.
وبالفعل قٌتل حسن المغنواتى وقام عطوة بالتمثيل بجثته وفصل رأسه عن جسدة وألقى بجثته فى النيل، لتنتهي حياة حسن وقصة حبه البائسة،ولم يٌعرف بعد ذلك ماذا فٌعل بنعيمه هل اٌجبرت على الزواج من عطوة أم قٌتلت، وكأن المعنى الرمزي للسكوت عن قصتها أن نعيمة قد ماتت ودٌفنت مع قصة حبها لحسن فلن يٌجديها العيش ولن تهنأ لها الحياة بعد رحيل حبيبها. والسؤال هل كان من الممكن أن يتزوج الحبيبان؟
الإجابة لا. ويرجع هذا إلى عدة عوامل منها اختلاف المكانة الاجتماعية بين الحبيبين فهى أبنة الإقطاعي وهو المزارع والمغنى الفقير الذى يمتهن مهنة متدنية اجتماعيا حيث كانت النظرة الشعبية للمغنيين نظرة لا تحظى باحترام شعبي، كما أن الحبيبين قد ضربا بالأعراف والقيم الاجتماعية كالعفة والشرف عرض الحائط، وإن لم يمسسها حسن بسوء وإن لم يدنس عفتها ولكن مجرد هروبها من منزل أبيها كان بمثابة عاراً شديدً في ثقافة مجتمع تقليدي محافظ كصعيد مصر.
لذا لم يكن هناك مناص من إراقة دمه وفقاً لثقافة العار التي لا يمحوها إلا الدماء، كما لعبت العوامل الاقتصادية دورا ً كبيرا في ظل الثروة الكبيرة التي كانت سترثها نعيمة بعد وفاة والدها ولذا ووفقاً للنظام القرابى كان لا بد أن تؤول تلك الثروة إلى العائلة من جديد بزواجها من ابن عمها الذى سيجعله الزواج بأبنة عمة يمتلك ثروة عمه كاملة وضمان بقاء الثروة تحت ملكية العائلة، ولم تٌجزم لنا القصة بحقيقة مشاعر عطوة تجاه ابنة عمة نعيمه هل كانت تربطه بها مشاعراً حقيقية جعلته يتمسك بالزواج بها رغم علمه بتعلقها بغيره؟ الم تمنعه نخوته ومرؤته على الزواج بها عنوة رغم رفضها؟ ام أنه كان يلهث وراء الثروة فقط فتشبث بها مستنداً إلى ثقافة المجتمع التي ترى أن زواجه بابنة عمه مقبولا ثقافياً وحق مشروع ، فى مجتمع يرى أن أبن العم هو أولى الناس بالزواج بابنة عمه ومن الجمل المأثورة في صعيد مصر(أن ابن العم حقة يأخذ ابنه عمه من على الفرس) أى أن من حقة أن يأخذها وهى تٌزف على الحصان مع زوجها إن كان غريباً وليس من أبناء عمومتها، لذا فوفقاً للنظام القرابى كان الزواج بأبناء العمومة حقاً مشروعاً ومٌفضل ثقافياً عن زواج أبناء الخؤولة وفقاً للنظام القرابى الأبوى.
ولكن في قصة حسن ونعيمة الحقيقية زادت الأقاويل حول زواج حسن من نعيمه ولكن الحقيقة أنه طلب الزواج منها ولكن أهلها رفضت بشدة لأن حسن مجرد “مغنواتي”، وابن عمها كان يحبها حيث قيل أن أهل نعيمة قتلوا حسن وفصلوا رأسه عن جسده وإن تمكنت نعيمة بالاحتفاظ براس حسن ولكن الحقيقة أن أهل نعيمة ألقوا جثته في بحر يوسف وعند قريته اكتشفت أهل حسن جثته .
لم تكشف جثة حسن ودموع نعيمة وغضبها عن حقيقة المجتمع القبلى المتعصب فقط، بل أكدت بعد مرور كل هذه السنوات على ذكراها أننا أصبحنا نعيش فى مجتمع غير قادر على ابتكار قصة أخرى تحمل نفس القدر من الرومانسية، مجتمع عاجز عن خلق أسطورة حب جديدة، مجتمع غمرته عواطف تفاصيل علاقة حسن ونعيمة، فأنجب من الأدباء والشعراء ما يفتخر بهم حتى زماننا هذا، ثم تحول إلى مجتمع ينتج فقط قصص حب معلبة يسيطر عليها البيزنس أو غرف بيوت الدعارة، تنتهى بفضائح أو بمصائب، ومصيرها صفحات الحوادث ومن صفحات الحوادث إلى مقالب الزبالة.
لم يكون حسن مذنب ولم تكون نعيمة فتاة مراهقة عندما تنتهي قصة الحب بالقتل الحب هنا كان الإله، وبعد اكتشاف جثة حسن علم الجميع ان الحب والتضحية لن ينتهي ورغم موت حسن لكن أصبح الحب بقلب نعيمة حتى اكتشف الجميع حقيقة مجتمعهم الذى يقتل الحب باسم العرف والتقاليد دون رحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.