بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد لقد كان أبو حنيفة يميل إلى أبناء علي بن أبي طالب، وكان ذلك يبدو على لسانه في حلقة درسه وبين تلاميذه، وكان يجهر بمخالفة المنصور في غاياته عندما يستفتيه، كما كان يمتنع عن قبول العطاء من المنصور، وكان ينقد القضاء نقدا مرا إذا وجد فيه ما يخالف الحق في نظره، من غير أن يلتفت إلى ما يجره ذلك النقد من ضياع روعة الأحكام، وعندما دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه أن يرجع إليه القضاة فيما يشكل عليهم ليفتيهم فامتنع، فأنزل به العذاب بالضرب والحبس، أو الحبس وحده على اختلاف الروايات، ويروى أن أبا جعفر حبس أبا حنيفة على أن يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة.
فأبى حتى ضُرب مائة وعشرة أسواط، وأخرج من السجن على أن يلزم الباب، وطلب منه أن يفتي فيما يرفع إليه من الأحكام، وكان يرسل إليه المسائل، وكان لا يفتي، فأمر أن يعاد إلى السجن، فأعيد وغلظ عليه وضُيق تضييقا شديدا، وقد اتفق الرواة على أنه حُبس، وأنه لم يجلس للإفتاء والتدريس بعد ذلك، إذ إنه مات بعد هذه المحنة أو معها، ولكن اختلفت الرواية أمات محبوسا بعد الضرب الذي تكاد الروايات تتفق عليه أيضا؟ أم مات محبوسا بالسم فلم يُكتف بضربه بل سقي السم ليعجل موته؟ أم أطلق من حبسه قبل موته فمات في منزله بعد المحنة ومُنع من التدريس والاتصال بالناس؟ كل هذه الروايات رُويت، وقد توفى أبو حنيفة في شهر رجب وقيل في شعبان وقيل لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة مائة وخمسون من الهجرة.
وقيل سنة مائة وواحد وخمسون من الهجرة، وقيل سنة مائة وثلاثة وخمسون من الهجرة، وقيل توفى في اليوم الذي وُلد فيه الإمام الشافعي، وكانت وفاته في بغداد، ودفن في مقبرة الأعظمية في موضع سُمي فيما بعد مقبرة الخيزران، وقبره هناك مشهور يزار، وصارت له هناك محلة أضيفت إلى اسمه محلة أبي حنيفة، ثم نسبت إلى صفته الأعظم، فقيل لها الأعظمية، وصح أن الإمام لما أحس بالموت سجد، فمات وهو ساجد، وقد أوصى أبو حنيفة أن يدفن في أرض طيبة لم يجر عليها غصب، وألا يدفن في أرض قد اتهم الأمير بأنه غصبها، حتى يروى أن أبا جعفر عندما علم ذلك قال من يعذرني من أبي حنيفة حيا وميتا، وشيعت بغداد كلها جنازة فقيه العراق، والإمام الأعظم، ولقد قدر عدد من صلوا عليه بخمسين ألفا.
حتى لقد صلى أبو جعفر نفسه على قبره بعد دفنه، ولم يكن عصر الإمام أبي حنيفة النعمان عصر تأليف وتدوين بالمعنى المعروف فيما بعد، بمعنى أن يخلو العالم إلى نفسه فيكتب أو يملي الأشياء الكثيرة، فلم يكن أبو حنيفة قد فرغ نفسه للتأليف والإملاء، فقد كان يقوم الليل حتى يصبح، فإذا أصبح صلى الصبح ثم جلس يُعلم الناس حتى يضحي، ثم ذهب إلى بيته لحاجاته، ثم يخرج إلى السوق لينظر في شؤون تجارته ودنياه، ويعود مريضا، أو يشيع ميتا، أو يزور صديقا، وينام بين الظهر والعصر، ثم يجلس بعد العصر لتعليم الناس والإجابة على أسئلتهم إلى الليل، وهكذا، والتدريس شغله عن التأليف، وهو فوق ذلك مرجع طلاب العلم وشداته، يقصدونه من الكوفة والبصرة وداني البلاد وقاصيها، لذا لم تكن لأبي حنيفة تآليف كثيرة تتناسب مع مكانته العلمية العظيمة.