د. محمود محمد علي
أشد أنواع الألم في جزنا دفين خلف وجه مبتسم في يأس يدفع الروح إلى أن تصبح أسيرة بين أفكار الموت في أمل يرتجي عقارب الساعة أن تعود من البراء ، لعلها تكشف ما خفى من أسرار . في لحطة حاسمة بين مشاعر اليأس واتخاذ القرار ، في عزلة صمعت جريمة كانت فيه الضحية هي القاتل . نعم في حياة البشر مساحة للحزن مكانا لليأس ، في الحياتين طريقا آخر لبداية القصة.
أي يأس يدفع قرابة المليون إنسان إلى الانتحار كل عام ، وهذا واقع تؤكده منظمة العالمية التي تشير كذلك أن أكثر من نصف المنتحرين في العالم ، هم دون سن 45 ، هي لحظة يهيمن فيها العز بسبب أمراض نفسية سببه الاكتئاب الذي يعاني منه.
فأكثر من 300 مليون شخص عبر العالم .. أرقام صادمة دفعتني أن أكتب هذا المقال ،وهنا نقول بأن الانتحار يُعد ، وهو إنهاء حياتك بنفسك، رد فعل مأساوي لمواقف الحياة المسببة للضغوط، وهو الأمر الأكثر مأساوية، إذ يمكن الحول دون ارتكاب الانتحار. سواء أكنت تفكر بالانتحار، أو تعرف شخصًا تراوده أفكار انتحارية، تعرّف على العلامات المنذرة بالتفكير في الانتحار، وكيفية طلب المساعدة الفورية والعلاج المتخصص. يمكنك إنقاذ حياة، سواء أكانت حياتك أو حياة شخص آخر.
الانتحار، أجمعت الأديان على كونه من كبائر الذنوب والخطايا وأدخلته المجتمعات دوائر العار والصمت والتابو . أما الفلاسفة فانقسموا حوله: العبثيون منهم تحدثوا عن إنسان سيد على حياته وعلى موته. البير كامو قال: هل تستحق الحياة عناء عيشها فعلا؟ ونحن نسأل: هل الانتحار هو ثمرة حرية التصرف بالجسد والمصير فعلا؟ أم أنه نتيجة عذاب اليم وشعور باليأس أو الذنب أو انعدام الفائدة والمعنى؟
ولاشك في أن الانتحار يعدّ من المشاكل الإنسانية الأكثر خطورة لأنّه يثير مخاوف عميقة تجعل الإنسان منشطرا بين الاشمئزاز والانجذاب الغامض. حُرّم القتل (قتل الذات أو ذات أخرى) مبكرا في بداية التاريخ الإنساني، ربّما كان ذلك لسبب نفعي، غايته حماية البقاء وتطوّر الجماعات الإنسانية، لكن هذا الأمر غير كاف لجعل الإنسان يحرّم القتل بهذه الصرامة. ويبدو لنا أنّ هناك سببا آخر غامض جدا يجعل الإنسان متجاذبا بين حبّه للحياة ورغبته في إنهاء هذه الحياة. ولم تستعمل كلمة الموت عمدا لأنّ الإنسان لا يرغب في الفناء، بل في نهاية مطاف يمكن أن يكون أليما بالنسبة له وفي هذه الحالة يسعى الإنسان إلى إنهاء هذا الألم، وهذا ما نجده كثيرا في محاولات الانتحار. أمّا في الحالة الثانية، فإنّ الشعور بمنتهى السعادة يجعل الفرد يرغب تارة في توقيف مسار حياته في هذا المقام وكأنّه يريد توقيف الزمن.
وقد حرّمت كل الدّيانات القتل والانتحار وجعلت منه المحرّم الأكبر، لكن الثقافات المختلفة تجعل من القتل في الحروب والانتحار فضيلة في بعض الظروف الخاصة، وقد سمّاه “دوركايم” الانتحار « altruiste » مثل انتحار “الصاموراي” في اليابان الذي يعيد للمنتحر شرفه وكرامته. وفي الثرات الدّيني الإسلامي وديانات أخرى قد تعتبر العمليات الانتحارية جهادا، لكونها تهدف إلى الدفاع عن رموز أو مثل عليا مثل الحرّية، الاستقلال.. إلخ، فالانتحار هنا محاط بقيم اجتماعية.
إنّ الانتحار ومحاولات الانتحار متعدّدة ومتنوّعة – باستثناء الحالات المصابة بالأمراض العقلية – فهي مرتبطة بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية الرديئة وبالصعوبات الوجدانية والوجودية ذات العلاقة بالعوامل النفسيـة والخاصة بالفرد وعتبة تحمّله وتصديه للصعاب. وتثبت الدراسات (Baudelot Establet, 2006 ; OMS, 2007) أنّ الانتحار مرتفع جدا في البلدان الغربية وغير مرتفع في البلدان النامية، وهذا ما يجعل العامة يتسرّعون في الحكم على أنّ التطوّر الاقتصادي يجرّد الإنسان من قواه الروحية، إلخ. لكن هذا التأويل خاطئ في أساسه، لأنّ الانتحار يكثر في هذه البلدان لكنه يمسّ الطبقات قليلة الدخل والجاه إذ يقول “بودلو” و”استابلي” : “حيثما تحصلنا على إحصائيات فيها مهنة المنتحرين وجدنا أنّهم موجودون في السلم الاجتماعي الأدنى”، فالعلاقة بين الغنى والانتحار دالّة.
إن محاولة الانتحار ليست فعلا بسيطا يمسّ مرتكبيه بل هو صدمة عميقة تمسّ كلّ أفراد الأسرة والمحيط، فهو فعل متشعّب المعاني وعميق الجذور في مجتمع ومحيط وفي أسر تعيش وضعيات مختلفة تجعلها تتفاعل مع أفرادها بطرق يمكنها أن تؤدي إلى سلوكات مميتة.